( أمرٌ مُهمُّ جدّاً ) : النصُّ الكامل لتذكرةِ المرجعيّةِ الدّينيّةِ العُليا الشريفة لِكُلّ مَن في مواقع المَسؤوليّة والسلطة – الجزء الثاني من خطبة الجمعة اليوم :


( أمرٌ مُهمُّ جدّاً ) : النصُّ الكامل لتذكرةِ المرجعيّةِ الدّينيّةِ العُليا الشريفة لِكُلّ مَن في مواقع المَسؤوليّة والسلطة – الجزء الثاني من خطبة الجمعة اليوم :
وهنا نورد مقاطع من عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر
 ( رضوان الله تعالى عليه) حين ولّاه حكمَ مصر مع بعض التوضيح لها عسى أن تكون تذكرةً
وتبصرَةً لكلّ مَن في مواقع المسؤوليّة .
 قال ( عليه السلام) في ذلك العهد :( وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ - والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ)
إنَّ الإمام (عليه السلام) يتحدّث عن أُسس ومقوّمات الحكم العادل في الناس ، والذي يَحملُ مقوماتِ  الدوام والاستقرار والازدهار ، ويبتدأ الإمام (عليه السلام) في عهده هذا بالنسبة للحاكم فيوصيه – بأن يُشعِرَ قلبَه الرحمةَ والعطفَ بعموم الرعيّة ، لأنَّ الرحمة والعطف المطلوبين من الحاكم والمسؤول تجعل هذا الحاكم يستشعر هموم الناس ومعاناتهم ومطالبهم ومظلوميّتهم ، وحينما يستشعر هذه المطالب والمظلوميّات والآلام والمعاناة حينئذٍ سيتفاعل معها ، ويتعامل معها بالسعي لحلّ هذه المشاكل ورفع المظلوميّات وتحقيق المطالب للناس والمواطنين.
  وأمّا إذا فقدَ هذه الرحمةَ والعطفَ بأن كان خشناً وقاسي القلبِ على عكس الرحمة فإنَّ هذه القسوة ستُشَكّل حاجباً وحاجزاً بينه وبين استشعار المظلوميّة والآلام والمعاناة التي تمرّ بها الرعيّة ، وحينئذٍ حينما يفقد هذا الاستشعار
 ولا يلتفت ويكون في غفلة عن هذه الآلام والمعاناة والمطالب ولا يتفاعل معها،
ولا يسعى في حلّها ، و ستتراكم وتؤدي إلى الكثير من المشاكل والاضطرابات.
ولنلاحظ هنا أيّها الإخوة - لماذا الإمام ( عليه السلام) أكثرَ من تعابير ( الرحمة والمحبّة واللطف )؟ ولنلتفت إلى هذه التعابير الثلاثة.
(الرحمة): إنّما هي بحسب عموم الرعية –  وهذا الاختلاف إنّما هو بحسب اختلاف الأحوال والظروف ، ثُمّ (المحبّة) : لأولئك الّذين يخدمون ويعملون في نفع الآخرين وخدمتهم ويضحون من أجلهم ، وهذه خصوصيّة تحتاج إلى المحبّة – ثُمّ بعد ذلك الحالة الثالثة ( اللطف) فيحتاج البعض من الرعية إلى التعامل معهم باللطف حتى يتوجّهوا إلى الطريق الصحيح ويسلكوه ولا يتسببوا بأذى الآخرين ، لذلك اختلفت تعابير الإمام ( رحمة – محبّة – لطف) .
فعندنا عموم الرعية تحتاج إلى رحمة ، وعندنا محبّة لخصوص البعض ممّن يُضحي ويعمل في خدمة الآخرين ويُضحي من أجلهم فهذا يقتضي المحبّة لهم .
واللطف ينبغي التعامل به مع طبقة معيّنة ممّن يحتاجون إلى التوجيه إلى الطريق الصحيح حتى لا يتوجّهوا إلى إيذاء الآخرين .
ثُمّ يقول الإمام (عليه السلام) : ( ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ - فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ - وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).
أي لا تكن كالحيوان المُفترس الذي يَفترس طريدته ويغتنم أكلها ، وهنا الحاكم الذي يُخاطبه الإمام (عليه السلام) في هذا العنوان العام يشمل أيّ مسؤول في مواقع الحكومة ، سواءٌ أكانت المواقع العليا أم الدنيا هنا .
 فلا يجوز لهذا الحاكم والمسؤول أن يعتبرَ الرعيةَ كالفرائس يغتنم الاستحواذ على مقدّراتهم ، وأيضاً لا يجوز لهذا الحاكم والمسؤول أن ينتهزَ  فرصةَ وصوله إلى الحكم والسلطة والمسؤوليّة لكي يستأثر بأكبر قدر ممكن من أموال هذه الرعية وإمكاناتهم ، ويعتبر قدرات السلطة التي وفِّرَت له مغانمَ له .
 بل أنَّ هذه الحاكمية والسلطة والمسؤولية إنّما هي تفويض من الشعب له ، وهذا التفويض يُراد منه أن يُديرَ هذا الحاكم والمسؤول شؤون رعيته بما يحقق مصالحهم في تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار ، هكذا ينبغي أن يكون التعامل مع هؤلاءِ الرعية.
وهنا يشير الإمام (عليه السلام) أنَّه لا فرق في هذه الرعاية لحقوق المواطنين جميعاً ، سواءٌ أكان من هؤلاءِ الرعيّة مَن يُشاكل الحاكمَ في انتمائه الديني والمذهبي أو يختلف معه ، فالمطلوب من الحاكم أن يوفّر الحياة الكريمة لجميع المواطنين على حدّ سواء ، من أيّ مذهب كانوا أو قوميّة.
ثُمّ يقول (عليه السلام) في مقطع آخر : (واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيه شَخْصَكَ - وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً - فَتَتَوَاضَعُ فِيه لِلَّه الَّذِي خَلَقَكَ - وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ - حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ - فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ( ص ) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ - لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّه مِنَ الْقَوِيِّ - غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ)
فالإمام (عليه السلام ) يوصي الحاكمَ  والمسؤولَ بصورة عامة بانفتاحه على عموم الناس ، خصوصاً أصحاب الحاجات من المواطنين ممّن لهم مشاكل أو معاناة أو مظالم أو مطالب ، وهذا الانفتاح يتحقّق من خلال جعله مجلساً خاصاً لهؤلاءِ المواطنين - يستمع إليهم ويتفهم مشاكلهم ويتحسّس آلامهم ومظالمهم ،
وما يمرّون به من ظروف .
 فإنَّ لهذا المجلس الخاص الذي يفتحه الحاكم والمسؤول لأصحاب الحاجات له أثر كبير في نفوس الرعيّة ، وسيُشعرُ الرعية بأنَّ هذا الحاكم والمسؤول رحيمٌ بهم وعطوف عليهم ، ويتفهم مشاكلهم وآلامهم ومعاناتهم ويسعى في حلّها .
 بعكس ما لو كان منغلقاً صادّاً نفسه عن الرعية والاستماع إلى أصحاب المطالب والمشاكل والهموم والآلام والمعاناة ،ممّا يجعل المواطنين يَشعرون بتكبّر هذا الحاكم واستعلائه عليهم ، وأنّه لا يُفكّر إلّا بنفسه وتحقيق مصالح حكمه.
 فلا بُدّ أن يكون هناك مجلس خاص ، ويُضيف إليه الإمام (عليه السلام) قائلاً : (فَتَتَوَاضَعُ فِيه لِلَّه الَّذِي خَلَقَكَ - وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ) – ليس هذا فقط ، بل تجلس مجلساً تُشعرَ المواطنينَ بتواضعكَ لله وتُبعِدُ أفرادَ الأمن والحرسِ عن هؤلاءِ المواطنين الّذين يرغبون بلقائك لكي يستطيعوا أن يُعبّروا عمّا في نفوسهم من مطالبَ من غير خوف ولا وجل ولا رهبة من أحد،
 ولا خوف من بطش أو تنكيل بأحد منهم ، وحينها يستطيعون أن يُعبّروا عن مطالبهم ومظالمهم لتستمع إليهم.
ثُمّ ينقل الإمام (عليه السلام ) كلمةً خالدةً للنبي ( صلّى الله عليه وآله ) وقد كرّرها في غير مرّةٍ – يقول (صلّى الله عليه وآله ): (فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ - لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّه مِنَ الْقَوِيِّ - غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ) -  فيقول النبي( صلّى الله عليه وآله ) في هذا الحديث لا تُنزّه أمّةٌ إذا لم يكن بالإمكان للضعيف أن يأخذ حقّه من القوي الذي غصبه من دون أن يتردّد أو يخاف أو يوجل هذا الضعيف من أن يُبيِّنَ حقّه ومن غير أن يخاف أن يتعرّض إلى أذى يقلقه ويُزعجه فحينئذٍ لو لم يحصل في الأمّة من مثل هذا الأمر فلن تُنزّه ، لذلك إنّما كرّر (عليه السلام) هذه المقولة ليؤكّد على هذا المقوّم المهمّ ، وأيضاً حتى لا يتردّد هذا المواطن الذي يُطالب بحقّه ويُبيّن ظلامته – لا يتردّد في بيان حقّه ومطلبه ..::
(فالمطلوب من الحاكم أن يسمحَ لِمَن لديهم شكاوى ومظالم من الرعية والمواطنين بأن يتكلّموا بكلّ حرية ومن دون تردّد أو خوف أو رهبة من بطش قد يلحقهم وأن يتكلّموا بما في نفوسهم ويُفصحوا عمّا في ضمائرهم )
( والتظاهرات السلميّة الخالية من العنف والتخريب والإضرار بمصالح الآخرين هي من الأساليب المتعارفة في عصرنا الحاضر – ونشاهد الكثير من الشعوب والكثير من المظلومين الّذين يُريدون إسماعَ مظلوميّتَهم وشكاواهم إلى الحُكّام والمسؤولين يلجئون إلى هذا الأسلوب - التظاهر السلمي – الذي أصبح أسلوباً متعارفاً في عصرنا الحاضر – حتى يسعى الحاكم إلى الاستجابة لهم وفق مبادئ الحقّ والعدل)
( إخواني وأخواتي :- لو تأمّلنا صفحات التاريخ لوجدنا أنّ الكثير من ثورات الشعوب وتمرّدها على حُكّامها إنّما هو بسبب الظلم الذي استشرى فيهم ، ولم يجدوا هؤلاءِ من وسيلة لإسماع أصواتهم ومظلومياتهم ومعاناتهم إلّا من خلال ذلك ، ولكن في نفس الوقت لماذا لجأوا إلى هذا الأسلوب ؟
-       لأنّه في مثل هذه الحالات لا يجدون وسائل أخرى لإيصال هذه المظلوميّة والمعاناة والآلام  إلى الحُكّام، فيضطرّون إلى هذا الأسلوب – لسببين :
-        إمّا لأنَّ المُقربين والحواشي والمُستشارين القريبين من الحُكّام ضللّوهم وأوهموهم بأنَّ الأمور تجري على خير .
-        وإمّا لأنَّ الحُكّام صمّوا آذانهم عن الاستماع إلى أصحاب المظالم والحاجات ولم يهتموا ولم يسعوا في حلّ مشاكلهم  ورفع مظلوميّاتهم وتلبية مطالبهم )
ثُمّ الإمام( عليه السلام) يُحذّر من تبعات هذا الأمر في المقطع الأخير:
(إيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا - فَإِنَّه لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ ولَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ - ولَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ - مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا - واللَّه سُبْحَانَه مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ - فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ - فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُه ويُوهِنُه بَلْ يُزِيلُه ويَنْقُلُه)
: وهنا نلاحظ الإسلامَ قد شدّد في مسألة حفظ الدماء وصونها من السفكِ بغير حقّ كالقصاص ، فأشار الإمامُ إلى التداعياتِ الخطيرةِ والتبعاتِ الفادحةِ التي تترتّب على سفكِ الدماء بغير حقّ ، - أوّلاً : يتسبّب بالنقمة، وثانياً: التداعيات الخطيرة التي لا يمكن السيطرة عليها وزوال النعمة ، بل ممكن أن يؤدي سفك الدماء إلى ضعف الحكم ووهنه، بل قد يؤدي إلى زواله وانتقال الحكم آخرين ...:
نسألُ اللهَ تعالى أن يُجنّب الجميعَ الخللَ والزللَ في القول والعمل ، إنَّه أرحم الراحمين.
: أهمُّ ما جاءَ في خِطابِ المَرجَعيَّةِ الدِّينيّةِ العُليَا الشَريفَةِ , اليَوم, الجُمْعَة الرابع والعشرون من ربيع الأول 1441 هجري -  الثاني والعشرون من تشرين الثاني 2019م  - عَلَى لِسَانِ الوكيلِ الشرعي، سماحة  الشيخ عبد المَهدي الكربلائي ، دامَ عِزّه ، خَطيب وإمَام الجُمعَةِ فِي الحَرَمِ الحُسَيني المُقَدّسِ .
___________________________________________
تدوين – مرتضَى علي الحلّي –  النجفُ الأشرف .

شاركه على جوجل بلس

عن مرتضى علي الحلي

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات: