الإمام
زين
العابدين(ع)
منهج
واعتبار
مرتضى علي الحلي
مؤسسة
أحباب الصدّيقة الطاهرة(ع)
النجف
الأشرف
ولد الإمام علي بن
الحسين السجاد×، في الخامس من شهر شعبان، سنة 38 للهجرة، في المدينة المنورة. وهو
الإمام الرابع من سلسلة أئمة أهل البيت^، المعصومين بنص القرآن الكريم، الذين قال
الله تعالى فيهم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، فهو× مشمول قطعا بعنوان (أهل
البيت المعصومين^).
[فعن ابن عباس، قال في
خصوص هذا النص القرآني الشريف، إنها نزلت في علي، وفاطمة، والحسن، والحسين^. ولا
يقال، المراد بها (أي بعنوان (أهل البيت)) النساء؛ لأن صدر الآية وعجزها، دال
عليهن، ولأنا نقول، لا يلزم من ذلك إرادة النساء؛ لأن الكناية صريحة في التذكير، وليس
يبعد أن يخرج من معناه إلى غيره، ثم يعود إليه، كما روي، >عن عبد الله بن بكير،
عن أبي عبد الله×، قال: نزل القرآن بإياكِ أعني واسمعي يا جارة<. ومع انتفاء
الرجس، يكون ما أفتوا به حقا، لأن الرجس يقع على كل ما يكره.
هذا على مستوى مشموليته×
بنص القرآن الكريم بالعصمة والإمامة المُنحفِظة لأهل البيت المعصومين^.
أما على مستوى السنة
النبوية الشريفة، فمنها قول النبي’: >في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي، ينفي
عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجهال، وإن أئمتكم وفدكم
إلى الله؛ فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم<.
وقوله’: >مثل أهل
بيتي، كمثل نجوم السماء، فهم أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء،
فإذا ذهبت النجوم طويت السماء، وإذا ذهب أهل بيتي، خربت الأرض وهلك العباد<.
وقوله’: >إني تارك
فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن
يفترقا، حتى يردا علي الحوض<.
وقوله’: >من أهل
بيتي اثني عشر نقيبا نجباء، محدثون، مفهمون، آخرهم، القائم بالحق عليه السلام<].([1])
وعن رسول الله’، قال:
>إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، فإذا استشهدنا، فابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسين
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
وستدركه يا علي، ثم ابنه محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا حسين<،([2])
وفعلاً، أدرك الإمام الحسين× حفيدَه الإمام الباقر×، إذ تذكر الروايات أنه× ولِدَ
سنة 57 للهجرة، وحضر الطف مع الحسين، وأبيه زين العابدين سنة61 للهجرة.
وعن الحسين بن علي‘
أيضا، قال: >دخلت على جدي رسول الله’، فأجلسني على فخذه، وقال لي: >إن الله
اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعُهم قائمهم، وكلهم في الفضل والمنزلة عند
الله سواء<.([3])
وعن عبد الله بن عباس،
قال: >سمعت رسول الله، يقول: >أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين
مطهرون معصومون<.([4])
وقال الزهري: >لم
أدرك أحدا من أهل هذا البيت أفضل من علي بن الحسين<. ([5])
ومن هنا جسدت شخصية الإمام
زين العابدين×، حقيقة الإنسان، والإمام المعصوم العابد والملتزم بمنهج ربه تعالى، حيث
اعترف التاريخ المؤالف والمخالف، بأنه رأى علي بن الحسين× كأنه النبي محمد’ في
محراب عبادته في الثلث الأخير من الليل، أو كأنه النبي في غار حراء، ويُذكَر أنه
كان إذا يصلي تُحلق روحه الشريفة في ملكوت الله تعالى، فلم تكن صلاته مجرد أن يقف
ببدنه مستقبلا القبلة حسب، بل كانت روحه تستقبل الله تعالى حقيقة، وكان له من
الذوبان والحضور الحقيقي في محضر الله تعالى ما لا ينكر؛ ولذا لُقبَ× بـ (زين
العابدين) و(السجاد) فهو بحق كان إمام المحبة والإنسانية.
وقال الإمام مالك: >سمي
زين العابدين؛ لكثرة عبادته<.([6])
ومن خصائصه×، أنه كان إذا
رأى شخصا لا أهل له، أو غريبا فقيرا أو مسكينا، أو شخصا لا يعتني به احد، فكان
يُظهر له المودة ويلاطفه، ويأتي به إلى بيته×. ويقول ابن اسحاق في هذا الشأن: >كان
أهل بيت بالمدينة، يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه، لا يدرون من أين يأتيهم، فلما
مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك<.([7])
وعن الإمام محمد الباقر×،
قال: >إنه× كان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، حتى يأتي بابا
فيقرعه، ثم يُناول من كان يخرج إليه، وكان يُغطي وجهه إذا ناول فقيراً؛ لئلا يعرفه<.([8])
وهذان النصان الوثائقيان، يكشفان عن عمق الأخلاق والورع، في كيانية الإمام علي بن
الحسين×، ومدى شعوره بحال الآخرين، وترصّد وضعهم المعاشي، والعناية بهم إنسانيا واجتماعيا،
فنحن بمسيس الحاجة، لأن نلمس تلك الأخلاقية الشريفة، في شخصياتنا الذاتية
والمجتمعية، عند تعاطينا بعنوان الإسلام والإيمان مع الآخرين حياتيا. إنطلاقا من
التأسي المُرشَد إليه قرآنيا، بمنهج القدوة الحسنة، وأعني في المقام الإمام علي بن
الحسين×.([9])
ويذكر لنا التاريخ أيضا،
أنه× رأى في يوم ما جمعا من المصابين بالجذام،([10])
والكل كان يفر من الجذامى؛ حتى لا تسري إليه العدوى، ولكن هؤلاء أيضا عباد الله
تعالى، هذا ما يراه×؛ فدعاهم إلى بيته واعتنى بهم، وكان بيته× يُعرف ببيت المساكين
واليتامى، وبيت من لا حول له ولا قوة، فعن الإمام محمد الباقر×، قال عن أبيه×:
>إنه كان يعول مئة بيت من فقراء المدينة، وكان يُعجبه أن يحضِر طعامه إلى
اليتامى والفقراء، والمرضى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يُناولهم بيده، ومن
كان منهم له عيال، حمله إلى عياله من طعامه<.([11])
فنلحظ كيف يؤسس الإمام×
بنفسه ولوحده، لما يصح أن نُسميه اليوم بالمصطلح الجديد (شبكة الحماية الإجتماعية)،
أو (منظومة التكافل الإنساني والضمان الإجتماعي)، فإن مئة بيت رقم كبير في قيمته
ومعطياته وجوديا، ومع هذا نرى الإمام السجاد× يتكفّل بعناية مئة بيت؛ حفظا عليهم
من الضياع، وصيانة لكرامتهم البشرية، وتطبيقا فيهم لعدل الله تعالى في عباده. فلو نتأسّى
بإمامنا×، ونتكفل بيتاً واحداً فقط بحسب المكنة، لكان الحال اليوم في مجتمعنا أفضلَ
بكثير، ومرضي عند الله تعالى.
نعم هذه مفاهيمُ
وسلوكيات، يؤصّلها الإمام× في حياته؛ كي تبقى قاعدة تستند إليها الدولة والإنسان
في الفعل الاجتماعي والإنساني. وهذا السلوك الذي كان يُمارسه المعصوم زين العابدين×،
قد كان في وقت عصيب، أيام دولة الطاغوت والظلم الأموي، حيث يُسيطر النظام فيه
آنذاك على ثروات المسلمين، ويصرفها في المحرمات، وعلى حواشيه وأتباعه، تاركا
الفقراء والمساكين يتضورون جوعا وحرمانا.([12])
المنهج
العلمي للإمام علي بن الحسين× ومهمته التعليمية
إنّ مراجعةً دقيقةً في
سيرة الإمام علي بن الحسين×، تُطلعنا على أنه× قد ورث العلم والمعرفة والأخلاق عن
آبائه^، ولا سيما مَن عاصرهم، وهم الإمام علي بن أبي طالب×، وأبيه الحسين×، وعمه الحسن×،
فبلا شك أنّ ولادة الإمام علي بن الحسين× كانت في سنة 38 للهجرة النبوية الشريفة، وهذا
يعني أنه أدرك طفلاً شخص جده علي×، وحين ولدته أمه وزُفَت البشرى لعلي× سجدا لله
شكرا وأسماه عليا.([13])
وكذا عاش× ردحا طويلاً من الزمن مع عمه الحسن×، وأبيه الحسين×. ومن المعلوم أنّ
أئمة أهل البيت المعصومين^ يتوارثون العلمَ أباً عن جد وبمقدار واحد ومتساوٍ، فعن
معمر بن خلاد، قال : سمعت الرضا، وذكر شيئا فقال: >ما حاجتكم إلى ذلك! هذا أبو
جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني<، وقال×: >إنا أهل بيت يتوارث أصاغرُنا
عن أكابرنا القذّة([14]) بالقذّة<. وهذا
تعبير كنائي عن تساوي العلم المتوارث فيما بيننا نحن أهل البيت.([15])
فكان الإمام علي بن
الحسين× كثيرَ الرواية عن أبيه الحسين×، وعن جده أمير المؤمنين علي×، وهذا ما جعل
المفسرين القدامى يعتمدون على روايته في تفسير النصوص القرآنية؛ بعدّه ثقةً ومن
أهل بيت النبوة المعصومين^.([16])
ويقول قائل، كيف كان
الأئمة المعصومون^ يتوارثون العلم عن أكابرهم وهم صغار؟ فنقول كما قال القرآن
الكريم، في قصة يحيى×، وقصة عيسى بن مريم×، وهما نبيان. وفي اعتقادنا نحن أتباعَ
أئمة أهل البيت^، أنّ الإمام هو النبي نفسه بفارق النبوة، من حيث أهليته لتحمل علمِ
الله تعالى وعلم رسوله’، وقدرته على إدارة أمر الناس وتدبيره في الهداية والنظام
العام من بعد النبي’. لذا قال الله تعالى في حقيقة ذلك يومَ المباهلة {فَمَنْ
حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ
أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ
ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]،
معنى الآية هذه {فَمَنْ حَآجَّكَ} جادلك من النصارى، {فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ
مِنَ الْعِلْمِ} بأمره {فَقُلْ} لهم يا رسول الله محمد {تَعَالَوْاْ نَدْعُ
أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} فنجمعهم
{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نتضرّع في الدعاء {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ}، بأن نقول: اللهم العن الكاذبَ في شأن عيسى، وقد دعا’ وفدَ نجران
لذلك لمّا حاجوه به، فقالوا: حتى ننظرَ في أمرنا ثم نأتيك، فقال ذو رأيهم: لقد
عرفتم نبوتَه وأنه ما باهلَ قوم نبياً إلا هلكوا فوادعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا
الرسول’ وقد خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي، وقال لهم’: إذا دعوتُ فأمِّنوا،
فأبَوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية.وعن ابن عباس، قال: لو خرج الذين يباهلون
لرجعوا، لا يجدون مالا ولا أهلا.
ولم يدّع أحد([17])
انه أدخلَ النبيُ محمد’ تحت الكساء عند مباهلة النصارى، إلا عليَ بن أبي طالب
وفاطمة والحسن والحسين، فكان تأويل قوله تعالى {أَبْنَاءنَا} الحسن والحسين
ونساءنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب^.([18])
فقال الله تعالى في خصوص هذه الحقيقة أيضا، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ
بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم: 12]، وفي قصة عيسى×، قال
تعالى {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيّاً} [مريم: 29]، {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ
وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 30]، فالإمام علي بن الحسين×، كان يُفسّر القرآن
الكريم بوجهه الحق، عن علمٍ أخذه× من أبيه وجده‘.
وفي رواية نذكرها هنا، تتضح
مكانة الإمام× العلمية، فقد ورد في تفسير الإمام العسكري×، عند قوله تعالى {وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، قال علي بن الحسين‘: كان هؤلاء قوم يسكنون على
شاطئ بحر، فنهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت، فتوصلوا إلى حيلة
ليُحلّوا بها لأنفسِهم ما حرم الله، فخدّوا أخاديد وعملوا طرقا تؤدي إلى حياض،
يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق، ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع، فجاءت
الحيتان يوم السبت جارية على أمان لها، فدخلت الأخاديد وحصلت([19])
في الحياض والغدران، فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من
صائدها، فرامت الرجوع فلم تقدر، وبقيت ليلتها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد؛
لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها، وكانوا يأخذون يوم الأحد،
ويقولون: ما اصطدنا في السبت وإنما اصطدنا في الأحد، وكذب أعداء الله بل كانوا
آخذين بها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت، حتى كثر من ذلك مالهم.([20])
منهاجيّة
الإمام علي بن الحسين×
في
تربية أصحابه
لقد اتخذ الإمام علي بن
الحسين× من المسجد النبوي الشريف وداره المباركة، مجالا خصبا لنشر العلوم والمعارف
الإسلامية، فشهدت فترة إمامته× طوالَ خمسة وثلاثين سنة نشاطا فكريا قيّما.
حتى استطاع× أن يخلق
نواة مدرسة فكرية، لها طابع المعصومين^ ومعالمهم المتميّزة، وتخرج فيها الأصحاب
الأجلاّء والرواة والمحدثين والفقهاء.([21])
ومن أشهر أصحاب الإمام× الذين تربوا على يديه، وصبروا معه في محنته بعد واقعة الطف
الأليمة، يحيى بن أم الطويل المطعمي، وقال الفضل بن شاذان في حق هذا الصحابي،([22])
>لم يكن في زمن علي بن الحسين‘ في أول أمره إلا خمسة أنفس، وذكر من جملتهم يحيى
بن أم الطويل<، وروي عن الصادق×، أنه قال: >إرتد الناس بعد الحسين× إلا
ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم<، وهؤلاء الثلاثة
هم من الثقات والعدول بتوثيق كتب الرجال.([23])
ومن خيرة أصحاب الإمام
زين العابدين×أيضا، هما حكيم بن جبير وسعيد بن جبير، وكلاهما من أصحاب علي بن
الحسين‘.([24])
وسعيد بن جبير هذا، معروف دورُه الرسالي وصموده الإيماني بوجه الظالم الأموي
الحجاج الثقفي، الذي قتله ظلما وعدوانا؛ كونه من أتباع علي بن الحسين× إمام الزمان
والإنسان آنذاك.([25])
ومن الأصحاب الأجلاّء أيضا الذين روَوا ما حفظوا عن الإمام علي بن الحسين×، أبو
حمزة الثمالي (ثابت بن دينار)، الذي روى دعاء السَحَر ورواياتٍ كثيرة صحيحة عن
الإمام×، ومنها رسالة الإمام× في الحقوق، فقد قال أبو حمزة الثمالي، راوياً عن
الإمام علي بن الحسين السجاد× في حديث الحقوق، قال: >وأما حق مولاك الذي أنعمت
عليه، فإن تعلم أن الله جعل عتقَك له وسيلة له، وحجابا لك من النار، وأن ثوابك في
العاجل ميراثه إذا لم يكن له رحم، مكافأة لما أنفقت من مالك، وفي الآجل الجنة<.([26])
والصحابي صالح بن كيسان المدني، عده الشيخ الطوسي من أصحاب علي بن الحسين×.([27])
ومحمد بن شهاب الزهري، من أصحاب علي بن الحسين×،([28])
وروى الكثير عن الإمام علي بن الحسين×، ونكتفي برواية واحدة صحيحة، فقد روي عن
الزهري، أنه قال:
[دخلت على علي بن الحسين×، فقال: يا زهري، من أين جئت؟ فقلت: من المسجد، فقال×، فيم كنتم؟ قلت: تذاكرنا أمر الصوم، فاجتمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس شيء من الصوم واجب إلا صوم شهر رمضان، فقال×: يا زهري، ليس كما قلتم، إن الصوم على أربعين وجها: فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة أوجه منها صيامُهن حرام، وأربعة عشر وجها منها صاحبها فيها بالخِيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم الإذن على ثلاثة أوجه، وصوم التأديب، وصوم الإباحة، وصوم السفر، وصوم المرض. فقلت (أي ابن الزهري): فسّرهُنّ لي، فقال×: أما الواجب: فصيام شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين لمن أفطر يوما من شهر رمضان عمدا متعمدا،
وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، قال الله تبارك وتعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92 ]، وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظِهار، لمن لم يجد العتق واجبٌ، قال الله تبارك وتعالى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 3]، وصيام ثلاثة أيام في كفّارة اليمين واجبٌ لمن لم يجد الإطعام، قال الله تبارك وتعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، كل ذلك متتابع وليس بمتفرق. وصيام أذى الحلق -حلق الرأس- واجب، قال الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فصاحبها فيها بالخيار، فإن صام صام ثلاثا. وصوم دم المتعة واجب، لمن لم يجد الهدي، قال الله عز وجل {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} [البقرة: 196]. وصوم جزاء الصيد واجب ، قال الله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]...].([29]) فهذه الرواية بحد ذاتها تكشف عن عمق علم الإمام× ودقته وضبطه ومنهجه في تربية أصحابه.
[دخلت على علي بن الحسين×، فقال: يا زهري، من أين جئت؟ فقلت: من المسجد، فقال×، فيم كنتم؟ قلت: تذاكرنا أمر الصوم، فاجتمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس شيء من الصوم واجب إلا صوم شهر رمضان، فقال×: يا زهري، ليس كما قلتم، إن الصوم على أربعين وجها: فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة أوجه منها صيامُهن حرام، وأربعة عشر وجها منها صاحبها فيها بالخِيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم الإذن على ثلاثة أوجه، وصوم التأديب، وصوم الإباحة، وصوم السفر، وصوم المرض. فقلت (أي ابن الزهري): فسّرهُنّ لي، فقال×: أما الواجب: فصيام شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين لمن أفطر يوما من شهر رمضان عمدا متعمدا،
وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، قال الله تبارك وتعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92 ]، وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظِهار، لمن لم يجد العتق واجبٌ، قال الله تبارك وتعالى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 3]، وصيام ثلاثة أيام في كفّارة اليمين واجبٌ لمن لم يجد الإطعام، قال الله تبارك وتعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، كل ذلك متتابع وليس بمتفرق. وصيام أذى الحلق -حلق الرأس- واجب، قال الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فصاحبها فيها بالخيار، فإن صام صام ثلاثا. وصوم دم المتعة واجب، لمن لم يجد الهدي، قال الله عز وجل {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} [البقرة: 196]. وصوم جزاء الصيد واجب ، قال الله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]...].([29]) فهذه الرواية بحد ذاتها تكشف عن عمق علم الإمام× ودقته وضبطه ومنهجه في تربية أصحابه.
الإمامُ
عليُ بن الحُسَين× يَستكمِلُ النهضة الحُسَينية الشريفة قائداً للمسيرة بعد شهادة
أبيه×
إقتضت الحكمةُ الإلهية
البالغة، أن يبقى الإمام علي بن الحسين× حيّاً بعد المجزرة الدموية الأموية، التي
حلّت على أهل بيت النبوة والإمامة الأطهار^ في كربلاء، حيث أستُشهد الإمام الحسين×
وولدِه وأخوته وأصحابه، وسُبيَت عياله ظلما وعدوانا، ومن ذلك الوضع المأساوي نجا
الإمام علي بن الحسين× بقدرة الله تعالى، فقد كان المرض الذي حلّ به في أثناء
واقعة الطف هو المسوغ الشرعي لإسقاط واجب الجهاد بالسيف عنه×. وبعد أحداث الطف
مباشرة بدأ× بالحركة الإصلاحية في المجتمع المسلم آنذاك، وتلخّصت حركته× بمحاور
متعددة من أهمها:
المحور
الأول
وهو إكمال الشوط
الرسالي الذي بدأه الإمام الحسين× من قبل، فعندها عمل الإمام علي السجّاد× على فضح
المخطط الأموي الظالم الذي استهدف الإسلام الأصيل، وبخاصة عندما أدخلوا السبايا إلى
قصر إمارة ابن زياد في الكوفة، وحينما دار سجال قوي بين السيدة زينب÷ وابن زياد، التفتَ
ابن زياد إلى علي بن الحسين×، فقال: من هذا؟ فقيل له: علي بن الحسين×. فقال ابن
زياد: أليس قد قتلَ اللهُ عليَ بن الحسين؟ (هنا يُحاول ابن زياد أن يُوهِم الناس آنذاك
بنظرية الأمويين في جبر الله تعالى لعباده على أفعالهم، فيُحاول أن يُصوّر لهم أنّ
من قتل الحسين× مجبور على فعله؛ فلهذا نسب الفعل (قتل) إلى الله تعالى وحاشاه
سبحانه من ذلك، وطبقاً لفهمهم الخاطىء للنص القرآني الشريف {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} [الأنفال: 17])، فقال الإمام علي بن الحسين×: قد كان لي أخ يُسمى علي بن الحسين(يقصد
أخاه علي الأكبر) قتله الناس، (هنا صحح الإمام× بقوة وعلنية، الإنحرافَ الفكري
الذي نشره الأمويين في أوساط المسلمين آنذاك، وقال×: >قتله الناس<، وهذا هو
الحق؛ فالذي قتل الإمام الحسين× هم مجموعة من الناس الضالّين والظالمين، بل من
الكافرين واقعا بلا شك، والقرآن الكريم نسبَ القتل المُتعمّد إلى صاحبه (أي
القاتل) لا إلى الله سبحانه وتعالى عن ذلك، فقال تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93]، بمعنى، ومن يَعْتَدِ على مؤمن فيقتله عن عمد
بغير حق فعاقبته جهنم, خالدًا فيها مع سُخط الله تعالى عليه وطَرْدِهِ من رحمته, وأعدَّ
الله تعالى له أشد العذاب؛ بسبب مما ارتكبه من هذه الجناية العظيمة.([30])
فقال ابن زياد: بل الله
قتله! (وهذا إصرار من ابن زياد على الضلالة الفكرية)، فقال الإمام علي بن الحسين×:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الزمر: 42]،
(بمعنى، أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يقبض الأنفس حين موتها, وهذه الوفاة الكبرى,
وفاة الموت بانقضاء الأجل، ويقبض التي لم تمت في منامها, وهي الموتة الصغرى، فيحبس
من هاتين النفسين النفسَ التي قضى عليها الموت, وهي نفس مَن مات، ويرسل النفس الأخرى
إلى استكمال أجلها ورزقها، ذلك بإعادتها إلى جسم صاحبها. إن في قبض الله نفسَ الميت
والنائم، وإرساله نفسَ النائم, وحبسه نفسَ الميت لَدلائل واضحة على قدرة الله لمن تفكر
وتدبر.
وكان قصد الإمام× من
ذكره لهذه الآية الشريفة، وضعَ السامعين والحضور في الصورة الصحيحة لقبض الله
تعالى لأنفس عباده. وعلى وفق نظام الأسباب والمُسبّبات في الحياة الدنيا، فالله
تعالى لا يُجبر أحدا على فعلٍ ما، ولا يفوض له الأمر، فلا جبر ولا تفويض بل أمرٌ
بين أمرين، وهذا هو اعتقاد الأئمة المعصومين^، كما ورد ذلك عن الإمام جعفر الصادق×،
حيث قال: >فلا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين<، وعنى× بذلك أنّ الله لم يجبر
عباده على المعاصي، ولم يفوض إليهم أمر الدين، حتى يقولوا فيه بآرائهم ومقايسهم، فالله
عز وجل قد حدَّ ووصفَ وشرعَ وفرضَ وسنَّ وأكمل لهم الدين، فلا تفويض مع التحديد والتوصيف<.([31])
فقال ابن زياد: ولكَ جرأة
على جوابي! اذهبوا به فاضربوا عنقه، فسمعت عمته زينب÷، فقالت: يا ابن زياد، إنك لم
تبق، منا أحداً، فان عزمت على قتله فاقتلني معه، وقال المفيد وابن نما: فتعلقت به زينب
عمته، وقالت÷: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته (أي اعتنقت الإمام علي بن
الحسين×)، وقالت÷: و الله لا أفارقه، فان قتلته فاقتلني معه، فنظر ابن زياد إليها وإليه
ساعة، ثم قال: عجبا للرحِم! والله إني لأظنها ودّتْ أني قتلتها معه، دعوه فإني أراه
لما به، فقال الإمام×، لعمته: اسكتي يا عمة حتى أكلمه، ثم أقبل×، فقال: أبالقتل تهددني
يا ابن زياد! أما علمتَ أنّ القتلَ لنا عادة، وكرامتنا الشهادة! ([32])
وهذا المقطع الأخير من كلام الإمام زين العابدين×، أمام الطاغية ابن زياد اللعين،
>أبالقتل تهددني يا ابن زياد! أما علمتَ أنّ القتلَ لنا عادة، وكرامتنا الشهادة!<،
لهو بحق وواقع يعكس مدى استعداد الإمام علي بن الحسين× للقتل أو الشهادة في سبيل الله
تعالى، وهذا النص يُبيّن للمتلقي آنذاك، وفي يومنا هذا، أنّ الأئمة المعصومين^ لا
يخافون تهديدَ الطغاة لهم بالموت، وفي أحلك الظروف، فالقتل أمر اعتادوه^ من قبل، نحو
ما حصل لأمير المؤمنين علي×، الذي قُتِلَ غيلة، وكذا الإمام الحسن× الذي سمّموه
ظلما وعدوانا، وأخيرا ما حصل للإمام الحسين× في يوم عاشوراء، بقتله من قبل
المجرمين؛ فلذا قال×: >القتل لنا عادة<.
ثم قال×: >وكرامتنا
الشهادة<، وهذا مفهوم قيّم ختم به الإمام× خطابه مع الطاغية بن زياد.
فالشهادة في نظر
المعصومين^، كرامة وتكريم واقعي في تعاطيهم مع الله تعالى ودينه الحق، والموت بعز
وكرامة وثبات على المبدأ، أكرم وأشرف من الحياة في ذل وهوان وقبول بالخنوع. لقد
تجلى الموقف الثاني القيّم للإمام علي بن الحسين×، عندما أدخلوا سبايا آل محمد’
إلى الشام. فجاء شيخٌ شامي إلى الإمام×، وقال: >الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم
وقطع قرن الفتنة...<، فلم يأل عن شتمهم، فلما انقضى كلامهن قال له علي بن
الحسين‘: أما قرأتَ كتاب الله عز وجل؟ قال الشيخ الشامي: نعم. قال الإمام×: أما
قرأتَ هذه الآية: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23]؟ قال الشيخ الشامي: بلى. قال الإمام×: فنحن
أولئك. ثم قال×: أما قرأتَ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26]؟ قال الشامي: بلى. قال
الإمام×: فنحن هم. وقال الإمام× أيضاً: فهل قرأتَ هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33]؟ قال الشامي: بلى. قال الإمام×: فنحن هم. فرفع الشامي
يده إلى السماء، ثم قال: الّلهُمّ إني أتوب إليك. ثلاث مرات، الّلهُمّ إنّي أبرأُ
إليك من عدو آل محمد، ومن قتلة أهل بيت محمد، لقد قرأتُ القرآن فما شعرتُ بهذا قبل
اليوم.([33])
وهذا الحوار الثنائي الذي دار بين الإمام علي بن الحسين× والشيخ الشامي يكشف
سدادية المنهج العقلاني والمعتدل للإمام×، في مكافحة الانحرافات الفكرية الخطيرة، التي
أصابت عقول الناس آنذاك، ومدى قدرته× على إقناع الخصم المُغرّر به، واحتوائه وضمه
إلى جانب الحق والحقيقة.
فالشيخ الشامي -بحسب
ظاهر هذا الحوار- يؤمن بنظرية الجبر (أي جبرُ الله تعالى لعباده -والعياذ بالله-
في أفعالهم) والحال أنّها نظرية باطلة عقلا وشرعا، وكان هذا الشيخ قد قرأ القرآن
الكريم وربما قد حفظه، ولكنه كان واقعا في اشتباه كبير في تحديد مرادات النصوص
القرآنية، ويفتقر إلى المعرفة الحقة بمصاديق المفاهيم القرآنية؛ فلذا بادره الإمام×
بسؤاله: >هل قرأت القرآن؟ ودائما كان جواب الشيخ بنعم، والإمام× إنما ألزم
الشيخ الشامي بما ألزم به الشيخُ نفسَه،([34])
من حفظه للقرآن الكريم وآياته؛ فلذا طرح الإمام× على الشيخ الحق من القرآن الكريم،
ليعرف أهل الحق ذاتهم، بعد تصحيح فهمه للنص القرآني الشريف. وعندما قال الإمام×:
أما قرأتَ هذه الآية: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا
حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23]؟ قال الشيخ الشامي: بلى. قال
الإمام×: فنحن أولئك. طبعا قصد× بالقربى هنا، هم قربى نبينا محمد’، وهم أهل بيته
المعصومين^. وهذا الحقُ الشريف (مودة قربى نبينا محمد’ في أهل بيته×)، إنما أسس له
القرآن الكريم جزاءً أبدياً مُنحفظاً لشخص رسول الله محمد’، وأجراً على تبليغه
رسالة الله تعالى في هذه الحياة الدنيا، وقد أجمع علماء الشيعة الإمامية، على أنّ
المراد بالقربى في هذه الآية الشريفة هم الأئمة المعصومون^ من أهل البيت^. ووافقهم
على ذلك عدة من أعلامٍ غيرهم من المفسرين والمحدثين، منهم أحمد بن حنبل والطبراني
والحاكم النيسابوري.
وعن ابن عباس، قال: لما
نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله’، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال’:
>علي وفاطمة وابناهما<.([35])
وأيضا يُروى عن رسول الله’، أنه قال: >إلزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي
الله وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمُله إلاّ
بمعرفة حقنا<.([36])
المحور
الثاني
عمِل الإمام السجاد× بعد
شهادة الحسين×، على إنماء المجموعات الرسالية الاسلامية، والقواعد الواعية بالفكر
والثقافة الروحية والعلمية الرصينة، بعد ما رأى أنّ الأمة كادت أن تُحتضر وتموت
روحيا وقيميا؛ لما قام به بنو أمية من خنق للقيم والأصول الحقة، وإشاعة الفساد على
حساب مصلحة الإسلام العزيز. والتأريخ كفيل ببيان ذلك المحور، الذي عمل عليه الإمام
زين العابدين×؛ فالصحيفة السجّادية، وصحيفة حقوق الإنسان، وأحاديثه وتربيته
لأصحابه، فيها الكثير من الشواهد على منهج المعصوم×، ووعيه وعمله لإصلاح الأمة.
الإمام
علي السجاد× معلم الأخلاق والحقوق
إنّ من أروع ما تركه
الإمام السجاد× للإنسانية شيئين، هما (الصحيفة السجادية) و(الصحيفة الحقوقية)،
فتضمنت هاتان الصحيفتان المقدستان أرقى الاساليب التربوية والتعليمية والاخلاقية
وأقومها، التي اعتمدها× في تربية الإنسان والمجتمع.
فمارس× الدعاء الملكوتي
في الصلاة وما بعدها، مضمّنا تلك الأدعية جواهرَ العلوم والمعارف والأخلاق
والمناهج الصالحة ولَبابها. فكان الدعاء بالنسبة للإمام السجاد× بمثابة >مخ
العبادة<([37])
والروح المتحركة والناطقة في عالم الصلاة.([38])
وراح× يستثمر فرصة
الأدعية في الصلاة في وقته العصيب،([39])
حتى تمكن من بث أغلب المعارف الإلهية الحقة، من التوحيد والنبوة والإمامة والعدل
والمعاد، والقيم والارتباطات بين الإنسان وربه. فالمتتبع لمنهج الصحيفة السجادية
يلمس ذلك وجدانا. وبالتالي ترك لنا× مخزونا أخلاقيا ومعرفيا كبير جدا، وما علينا
إلا الانتهال من تلك الينابيع العلمية، التي امتازت بسداد نظرياتها وإمكانية
تطبيقها على مستوى حياة الفرد والمجتمع.
وما أحوجنا إلى ورقة
عمل، ملئت سطورُها بحكمة المعصوم× وحجته، التي لا يفوت معها الغرض ولا يضل من عمل
بها أبدا، ففي عيّنة من دعائه ومنهجه الأخلاقي×، إليك هذا النص أيها القارىء
المؤمن، وكان يدعو به كل ليلة، يقول فيه:
>إلهي غارت نجوم
سماواتك، ونامت عيون خلقك، وهدأت أصوات عبادك، وغلقت ملوك بني أمية عليها أبوابَها،
وطاف عليها حراسها، واحتجبوا عمن يسألهم حاجة، أو يبتغي منهم فائدة، وأنت إلهي حي
قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، ولا يشغلك شيء عن شئيء. أبواب سماواتِك لمن دعاك
مفتحات، وخزائنك غير مغلقات، ورحمتك غير محجوبة، وفوائدك لمن سلكها غير محظورات. أنت
إلهي الكريم، الذي لا ترد سائلاً من المؤمنين سألك، ولا تحتجب عن طالب منهم أرادك،
لا وعزتك ما تختزل حوائجهم دونك، ولا يقضيها أحد غيرك. اللهم وقد ترى وقوفي، وذل
مقامي، وموقفي بين يديك، وتعلم سريرتي، وتطّلع على ما في قلبي، وما يصلحني لآخرتي
ودنياي. إلهي وترقّب الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يديك نقصني مطعمي ومشربي،
وغصني بريقي، وأقلقني عن وسادي، وهجّعني ومنعني من رقادي. إلهي كيف ينام من يخاف
وثبات ملك الموت في طوارق الليل وطوارق النهار<.
ثم يبكي×، حتى ربما
أيقظ أهلَه بكاؤه، فيفزعون إليه، فيجدونه قد ألصق خديه بالتراب، وهو يقول: >ربّ أسألك الراحة
والروح والأمن والأمان<.([40]) فليتأمل القارئ اللبيب
الواعي، في هذه العبارات القدسية.
أما رسالة الحقوق
القيمية، فتلك رائعة أخرى من روائع السجاد×، والتي اشتملت على أهم حقوق الله
تعالى، و الإنسان والمجتمع والواجبات مع الآخرين.([41])
وأما عتقه× العبيدَ، [ففي
كتاب الإقبال وكتاب المناقب لابن شهرآشوب، قال: سمعت أبا عبد الله×، يقول: >كان
علي بن الحسين×، إذا دخل شهر رمضان، لا يضرب عبدا له ولا أمة...، وساق الحديث وهو
طويل، إلى أن قال فيه: إنه كان يكتب جناياتِهم في كل وقت، ويعفو عنهم آخر ليلة من
الشهر، ثم يقول: اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم، قال: وما من سنة إلا وكان
يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان، ما بين عشرين ونيف إلى أقل أو أكثر، وكان يقول:
إن لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الافطار، سبعين ألف ألف عتيق من النار، كلٌ قد
استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه،
وإني لأحب أن يراني الله، قد أعتقت رقابا من ملكي في دار الدنيا؛ رجاء أن يعتق
رقبتي من النار، وما استخدم خادما فوق حول، وكان إذا ملك عبدا في أول السنة أو وسط
السنة، فإذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتق، كذلك كان
يفعل حتى لحق بالله، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة، يأتي بهم عرفة
فيسد بهم تلك الفرج والخلال، فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم، وأمر بجوائز لهم من المال].([42])
بعض
المأثور عن الإمام علي بن الحسين× بخصوص الإمام المهدي×
- عن علي بن الحسين، عن
أبيه^: >قال النبي’ لفاطمة÷، المهدي من ولدك<.([43])
وهذا الحديث تحديد قطعي لهوية الإمام المهدي×، بمعنى كونه إماماً معصوماً ومنصوباً
ومنصوصاً عليه؛ حتى لا يحق للآخرين انتحالُ هويته ظلما وزورا، كما حدث في التأريخ
الماضي ويحدث مرارا.
وقد ورد عن الإمام علي
بن الحسين×، من أخبار المهدي× الكثيرُ، فمنها:
- قال الصدوق في (إكمال
الدين وتمام النعمة)، بسنده عن الإمام علي بن الحسين×، أنه قال: >القائم منا
تخفى ولادته على الناس، حتى يقولوا لم يولد بعد، ليخرج حين يخرج وليس لأحد في عنقه
بيعة<.([44])
فسبحان الله!! فهذه العبارة >لم يُولد بعد< ما زال يُرددها المنكرون لولادة
الإمام المهدي× حتى يومِنا هذا. والحال أنّ الإمام المعصوم×، يقول >تخفى ولادته
على الناس<، في تصريح منه بغيبة الإمام المهدي× وضرورتها؛ حفظا على شخصه الشريف
من كيد الأعداء، والدليل في المفردة الأخيرة في ذيل الحديث هذا، >وليس لأحد في
عنقه بيعة<.([45])
وذكر أيضا الشيخ المفيد
في المجالس، بسنده عن الإمام علي بن الحسين×: >لتأتين فتن كقطع الليل المظلم،
لا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه، أولئك مصابيح الهدى وينابيع العلم، ينجيهم الله
من كل فتنة مظلمة، كأني بصاحبكم قد علا فوق نجفكم بظهر كوفان، ثلاثمئة وبضعة عشر
رجلا، جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وإسرافيل أمامه معه راية رسول الله’،
قد نشرها لا يهوي بها إلى قوم، إلا أهلكهم الله عز وجل<.([46])
وفي هذا الحديث الشريف، يُبيّن الإمام زين العابدين× مدى خطورة الأمر في عصر
الغيبة الكبرى، وخفاء شخص الإمام المهدي×، وحصول الفتن، والتي تشتبه فيها الأمور،
وهي حقيقةً فتنةٌ واختبار للمؤمنين؛ في الكشف عن صدق إيمانهم، وتقوية عقيدتهم
بإمامهم الحق×. ويبث الإمام علي بن الحسين×، هنا بشارة بحتمية الظهور الشريف
للإمام المهدي×، وظفره بالفتح المبين، وهذه طمأنة من لدن معصوم× للمؤمنين، بإمام
الزمان والإنسان الإمامِ المهدي×. وفي الختام امتدت مرة أخرى، اليد الأموية
المجرمة، التي قتلت الحسين×، لتغتال الإمام السجاد× بالسم في عهد سليمان بن عبد
الملك الأموي. في سنة 95 للهجرة. فإنا لله وإنا اليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أي
منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.
([9]) تعدّ العبادات، وعلى رأسها الصلاة، من أبرز
ملامح هوية الإنسان المتديّن، فكيف بالإمام الأسوة الحسنة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقد تكون كثرة الصلاة من
مصاديق ذِكر الله تعالى، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4]، وها هو التأسي الحسن بنزع الشرك
وعبادة الله وحده، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الممتحنة: 6]، ورجاء الله تعالى وسيلة
عبادية ولها أثر أخلاقي على النفس والمجتمع.
([17]) >قال الأستاذ الإمام: الروايات متفقة على أن
النبي’، اختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما، ويحملون كلمة (نساءنا) على فاطمة،
وكلمة (أنفسنا) على علي فقط. ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منه معروف، وقد
اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا، حتى راجت على كثير من أهل السنة<. تفسير
المنار، محمد رشيد رضا: 3: 322. إلحظ التناقض في النص!
([30]) أثارت بعض الآيات القرآنية جدلاً تأويلياً في
نسبة أفعال الإنسان إليه أو إلى ربه، وكان ابتعاد السواد الأعظم عن فكر أهل
البيت^، وعدم تدبرهم في القرآن كلاً واحداً؛ قد جعل المسلمين يخبطون خبط عشواء، في
مسألة الجبر والتفويض، هذا فضلاً عن الدسائس المعرفية للأمويين في إشغال المسلمين
عن الملك والسلطان.
([39]) يذكر المؤرخون أن ظهور أوليات التصوف، كان بسبب
من طغيان السلطة الأموية، فهي انكماش ذاتي، ولجوء إلى الله تعالى، ولكن الإمام×،
لا يُعدّ صوفياً بهذا المعنى، ولكنه نبّه الناس على أهمية الدعاء المباشر؛ ففيه
خلاص الإنسان من البلاء، وهو من حيثيات التوكل على الله عز وجل. وإلا فإن الإمام
علي بن أبي طالب× هو نبراس الزاهدين والصوفيين والعاشقين للذات الإلهية على مختلف
مذاهبهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق