وقفةُ اعتبار
مع السيدة زينب بنت علي(ع)
في
كيانيّتها الصالحة ورامزيّتها للنساء أجمعين
مرتضى علي الحلي
مؤسسة أحباب الصدّيقة الطاهرة(ع)
النجف الأشرف
زينب÷ هي ثمرةُ الزهراء÷
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين...
عند البداية لا بد من التعريف التأريخي بولادة السيدة زينب÷؛ فالأخبار الصحيحة تنصّ على أنّ ولادتها÷ كانت في الخامس عشر، من شهر جمادى الأولى، من السنة الخامسة للهجرة النبوية الشريفة.
ولمّا ولدَتها الصديقةُ الزهراء÷؛ جاءت بها فرحةً إلى أمير المؤمنين علي×، وقالت له، سمّ هذه المولودةَ، فقال×، ما كنتُ لأسبقَ رسول الله’ في تسميتها، وحينها كان النبي’ في سفر، ولما رجع سأله علي× عن اسمها؟ فقال’، ما كنتُ لأسبق ربي في تسميتها؛ فهبط جبرائيل× يقرأ على النبي السلامَ من الله تعالى، وقال له، سمِّ هذه المولودة زينب÷؛ فقد اختار الله لها هذا الاسم. ثم أخبره بما سيجري عليها بعد وفاته’؛ فبكى النبي’.([1])
وها هنا قيمة يجب أن نستوحيها في عصرنا هذا، هي تحسين أسماء الأولاد ذكوراً كانوا أم إناثاً، وهذا سنة مؤكدة في منظومة الفقه الإسلامي، وقد تأنت الزهراء÷ وعلي× وكذا نبينا محمد’ في انتقاء الإسم الأفضل للمولودة الجديدة (زينب)، وهو اسم تعرفه العرب([2]) مسمىً على الشجر الحسن المنظر والطيب الرائحة. ومن الواضح ما لأهمية الإسم من تأثير نفسي ومعنوي على الشخص المسمى به، على مستوى ذاته ومجتمعه،([3]) فزينب÷ لمّا شبّت حياتيا، كانت أقرب إلى أمها الزهراء÷.
ولا شك في أنّ البنت تكون أقرب نفسيا وحياتيا إلى أمها؛ وذلك للمماثلة الوجودية بينهما، فضلا عن العلاقة التكوينية، باعتبار وصف الأمومة وأهميتها للمولودة الجديدة، فزينب÷ ولدت من رحم امرأة معصومة هي الزهراء÷، ومن صُلب إمام معصوم هو علي×، ونشأت بين إمامين معصومين هما الحسن والحسين‘.
فكل تلك المرتكزات والعوامل الوجودية التي انطلقت منها زينب÷، قد تركت أثرها البالغ على كيانيّتها المعنوية؛ بحيث يذكر لنا التأريخ من السلوكيات لزينب÷ وأخويها الحسن والحسين‘، في تعاطيهما معا في ما بينهما، ما تقف عنده إجلالا وتقديرا لمثل هكذا امرأة عظيمة، فتذكر الروايات أنّ الإمام الحسين× كان إذا زارته أخته زينب÷؛ يقوم لها إجلالا ويُجلِسها مكانَه.([4])
وهذه مفردة أخلاقية تستحق الوقوف عندها؛ فالمعصوم وهو الحسين× هنا، هو أعلى وأكبر من زينب÷ منزلة، ولكنه حينما تزوره أخته، يُجلّها إكراما لها، ومن هنا ننهل القيمة الهادفة المؤسِّسة لمنهاج التعامل بين الأخ وأخته في طبيعة الحياة، بغض النظر عن التوصيفات لكل منهما، فالأخ يجب أن يكون محاميا ومدافعا عن أخته، فضلا عن كونه حانيا عليها وحافظا لكرامتها، وبخاصة حينما يُشعرها بذلك، فمن المؤكد أنها سوف تكون امرأة أبيّة وعزيزة.([5])
زينب÷ في شخصيتها
التكوّن والصيرورة
من المعلوم أنّ زينب÷ قد تربّت في حريم النبوة المحمدية الشريفة، وفي حجرات نزل فيها وحي الله تعالى، وفي أحضانٍ حانية معصومة كحضن جدها وأبيها وأمها^.
ومع تلاقح إيماني وتربوي كهذا، مع أخويها الحسن والحسين‘، فمن المتيقّن أن هذه الجذور المعنوية تُثمر ثمرا طيبا وصالحا، فمن ثمار هذه التربية الصالحة والسديدة، التي تلقتها زينب÷، أنّها أصبحت حافظةً للحديث ومفسرةً للقرآن الكريم علميا في حلقاتها الشهيرة، وحتى أنّ هند زوجة يزيد بن معاوية، اعترفت بهذا يوم أدخلوا زينب÷ سبية إلى مجلس يزيد، وما خُطبتاها في الكوفة والشام إلاّ دليل واضح على قدرتها البيانية والبلاغية الراقية؛ بحيث أسكتت القوم وأعجزتهم نطقا.([6])
ويذكر لنا رجال الحديث، أنّ زينب÷ نقلت خطبة أمها في المسجد الشريف، حول غصب فدك أيام الغاصب الخليفة الأول أبي بكر، ونقلت أيضا خطب أبيها، والتي جُمعت في نهج البلاغة بيد الشريف الرضي(قده)،([7]) وعنها أيضا كان يُحدّث الإمام زين العابدين عليُ بن الحسين× ابن أخيها، في كثير من المجالات.([8])
هذه صورة وجيزة مختصرة من علميّتها وفقاهتها، أما عن عبادتها وتدينها، فالمشهور عنها أنها كانت مخدّرة([9]) (يعني ملازمة لبيتها ولتسترها)،([10]) ومتهجدة في طاعتها لربها تعالى في كل أحوالها يسرِها وعسرها، صحتِها ومرضها، فالمعروف عنها تأريخيا، أنها ما تركت تهجّدها([11]) لله تعالى طَوال دهرها، حتى ليلةُ الحادي عشر من المحرم، بعد شهادة الإمام الحسين×،
فروي عن الإمام السجاد علي بن الحسين×، أنه قال: >رأيتها -أي عمّته زينب÷- تلك الليلة تُصلي من جلوس<.([12]) وهذا حقا يعني أنها كانت تُصلي من قيام طيلة عمرها الشريف، ولكن فاجعة كربلاء وشهادة إمامها وأخيها الحسين÷، أوهنت قوتها البدنية، فأمست لا تقدر على القيام، وهذه شهادة من إمام معصوم هو زين العابدين×، على حال عمته زينب÷.
فروي عن الإمام السجاد علي بن الحسين×، أنه قال: >رأيتها -أي عمّته زينب÷- تلك الليلة تُصلي من جلوس<.([12]) وهذا حقا يعني أنها كانت تُصلي من قيام طيلة عمرها الشريف، ولكن فاجعة كربلاء وشهادة إمامها وأخيها الحسين÷، أوهنت قوتها البدنية، فأمست لا تقدر على القيام، وهذه شهادة من إمام معصوم هو زين العابدين×، على حال عمته زينب÷.
وهنا أيضا تفرض قيمُ زينب÷ علينا ذاتَها بقناعة وإيمان، بأن نحذوا حذوها، رجالاً ونساءً، ولا حرج في ذلك، فالقرآن الكريم ضرب لنا مثلا، للذين آمنوا (رجالاً ونساءً)، بامرأة غير معصومة ولكنها صالحة، هي آسيا بنت مزاحم زوجة فرعون، فقال تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].
فزينب÷ وإن لم تكن معصومة بالنص، ولكن لم يثبت عليها ذنبٌ أبدا، فهي في الغاية من العبودية لله تعالى، وفي رقي التربية النفسية، والتي بها تحمّلت ما جرى عليها من مصائب وبلاءات، ربما لا يقدر رجالٌ عليها، وسجلت مواقف خالدة يمكن توظيفها في حياتنا المعاصرة تأسيسيا وتفريعيا؛ فهي كآسيا بنت مزاحم، رفضت ظلم الظالمين وصمدت بوجوههم؛ وبهذا صارت مثلا للذين آمنوا من بعدها، وهي أهل لذلك ولا سيما هي سبطة محمد’، وكريمة علي×، وبنت الزهراء÷، وأخت الحسنين‘، وهي العقيلة. فكل تلك المعطيات التي انبثقت من شخصية زينب÷ العلمية والأخلاقية والعبادية، هي لبنِات قويمة للمنهج الذي يجب أن ننهجه في سلوكنا المعاصر رجالاً ونساءً، وهذا هو منهج القرآن الكريم، في طرحه لمفردة القدوة([13]) والأسوة الحسنة من المعصومين وغير المعصومين من الصالحين، وضرورة الأخذ منها عمليا وعلميا.([14])
زواج زينب÷ من ابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب^
لمّا بلغت زينب÷ مبلغ النساء ونضجت، دار في ذهن علي× أن يُزوجها من ابن أخيه جعفر× الطيار؛([15]) لأهليّته لها، وفعلا دعا علي× ابن أخيه عبد الله، وشرّفه بتزويج زينب× على صداق معلوم، وهو صداق (مهر) الزهراء÷ مهر السنة المؤكّدة، وهو(480) درهماً آنذاك. وما أن تم الزواج المبارك، حتى ولدت زينب÷ لعبد الله أولاداً، هم علي، وعون الأكبر، وعباس، وأم كلثوم.([16])
وهنا أيضا نقف مستوحين لقيم مركزية، تركتها زينب÷ للنساء أجمعين، وعلى مر الزمان والمكان والإنسان؛ فالقيمة واحدة والحقيقة سيّالة لا تختص بجيل من دون آخر أبدا،
فهذه زينب÷ لم تعترض على اختيار أبيها زوجَها الكُفء لها، وقبلت مهرها المتواضع، ولم تتكلف في زواجها، فقلّة مهر الزوجة هو من مستحبات الشريعة، وقد ندبت له السنة النبوية الشريفة، فعن النبي محمد’، أنه قال: >أفضل نساء أمتي أقلهنّ مهرا وأحسنهنّ وجها<.([17])
فهذه زينب÷ لم تعترض على اختيار أبيها زوجَها الكُفء لها، وقبلت مهرها المتواضع، ولم تتكلف في زواجها، فقلّة مهر الزوجة هو من مستحبات الشريعة، وقد ندبت له السنة النبوية الشريفة، فعن النبي محمد’، أنه قال: >أفضل نساء أمتي أقلهنّ مهرا وأحسنهنّ وجها<.([17])
فالسيدة زينب÷، طبّقت السنة النبوية الشريفة، وقبلت ذلك المهر، وهي أشرف النساء في وقتها، وبذلك صارت من أفضل نساء أمة جدها محمد’. فأين نحن من هذا؟
في زمن غلاء المهور، وتعويق حركة التزويج بأفانين واهية، وطلبات كمالية وليست ضرورية، مما يُساعد على نشر الفساد، والبحث عن بدائلَ رخيصة من خلالها تُشبعُ الرغبات. فإن زينب÷ عندما أصبحت زوجةً، وتحملت مسؤولية جديدة، صانتها خيرَ صيانة، ولم تنسَ عشرتها مع أبيها وأخوتها؛ فكانت تهتم بأبيها وأخوتها، وهي متزوجة، حتى أنّها في وقتها، لُقّبت بـ (عقيلة الهاشميين).([18])
في زمن غلاء المهور، وتعويق حركة التزويج بأفانين واهية، وطلبات كمالية وليست ضرورية، مما يُساعد على نشر الفساد، والبحث عن بدائلَ رخيصة من خلالها تُشبعُ الرغبات. فإن زينب÷ عندما أصبحت زوجةً، وتحملت مسؤولية جديدة، صانتها خيرَ صيانة، ولم تنسَ عشرتها مع أبيها وأخوتها؛ فكانت تهتم بأبيها وأخوتها، وهي متزوجة، حتى أنّها في وقتها، لُقّبت بـ (عقيلة الهاشميين).([18])
ويُحدثنا التأريخ أنّ زينبَ÷ لم يفرّق زواجُها بينها وبين أبيها وأخوتها، فقد بلغ من تعلّق الإمام علي× بها وبابن أخيه زوجِها عبدِ الله، أن أبقاهما معه حتى إذا ولي أمر المسلمين وانتقل إلى الكوفة، انتقلا معه فعاشا في مقر الخلافة، موضعَ رعاية أمير المؤمنين× وإعزازه، ووقف عبد الله زوج زينب÷، إلى جانب عمه المعصوم الإمام علي×، في كفاحه ضد الأعداء، فكان أميرا من أمراء جيشه في صفين.([19])
فهنا نلحظ، سلوك زينب÷ مع أبيها، وهي في طور الزوجية ولها مسؤوليتها الخاصة بها، ولكنها كانت تتعامل مع أبيها إماماً معصوماً مفترضَ الطاعة، قبل أن يكون× أبا رحيما بها.
فهنا نلحظ، سلوك زينب÷ مع أبيها، وهي في طور الزوجية ولها مسؤوليتها الخاصة بها، ولكنها كانت تتعامل مع أبيها إماماً معصوماً مفترضَ الطاعة، قبل أن يكون× أبا رحيما بها.
وهي ليست مجبرة على ترك المدينة والرحيل مع أبيها إلى الكوفة، فمن حقها أن تبقى هي وزوجها في المدينة، ولم يُلزمها أبوها× بالخروج معه، ولكنها كما ذكرنا آنفا تتعامل معه ومع توجيهاته معاملة المكلّف مع إمام زمانه، وكذا كانت÷ مع الحسن والحسين‘ في محنتهما، تتعامل معهما إمامين لها،
والدليل على ذلك، ما قامت به÷ من دور مشرّف مع أخيها الإمام الحسين× في واقعة الطف.
والدليل على ذلك، ما قامت به÷ من دور مشرّف مع أخيها الإمام الحسين× في واقعة الطف.
ولنا في ذلك أسوة حسنة، وبخاصة لنسائنا في وقتنا هذا؛
فكل امرأة هي إنسانة مكلّفة بطاعة إمام زمانها، وأعني اليوم إمامنا المهدي المُنتَظر×،([20]) فزينب÷ تركتْ درسا بليغا للنساء، بلزوم الحركة مع إمام الوقت×، حتى إن كانت المرأة متعنونة بعنوان الزوجية، لكنها تبقى مكلفة بواجبات شرعية وعقدية منها، طاعة أمام الزمان×، وليس للزوج الحق في منعها عن أداء تكاليفها تجاه ما تعتقد وتتعبد به.
فكل امرأة هي إنسانة مكلّفة بطاعة إمام زمانها، وأعني اليوم إمامنا المهدي المُنتَظر×،([20]) فزينب÷ تركتْ درسا بليغا للنساء، بلزوم الحركة مع إمام الوقت×، حتى إن كانت المرأة متعنونة بعنوان الزوجية، لكنها تبقى مكلفة بواجبات شرعية وعقدية منها، طاعة أمام الزمان×، وليس للزوج الحق في منعها عن أداء تكاليفها تجاه ما تعتقد وتتعبد به.
السيدة زينب÷ الوجهُ الآخر للإمام الحُسَين× بعد شهادته
إنّ دراسة موقف السيدة زينب÷ بعد شهادة الإمام الحسين× يتطلّب الفحص والقراءة الدقيقين، لكل سلوك مارسته÷ مع ما تبقى لها من أهل بيتها^، وبخاصة ابن أخيها الإمام علي بن الحسين× وعائلة الحسين^، وفي كل محل مرّتْ به÷ في كربلاء أو الكوفة أو الشام.
فالسيدة زينب÷ بدأ دورها الريادي والرئيس فعلا، بعد انتهاء أحداث عاشوراء بلحظات، عندما خمدت نيران مخيم الحسين× وأصحابه. فأول موقف شجاع لزينب÷، أن شقت صفوفَ الأعداء الأمويين، من قتَلة الحسين×، وهي مجللة بالحزن والأسى على ما حصل للحسين×، فوقفت÷ على جسد أخيها الشهيد×، وجلست عنده ومسحت الدماء الجامدة عليه، وأزالت عنه بقايا السيوف وأعواد الرماح والنبال، ثم رفعت يديها ورمقت السماء بناظريها، ونطقت وملء شفتيها الإيمان، وقالت÷: >اللّهم تقبّل منا هذا القربان<.([21]) ولسان حالها÷، يقول، ففي سبيل دينك ضحّى بنفسه وأهل بيته وأصحابه.
فبهذه المقولة الإعلامية والإيمانية الأصل، والتي سمعها الأعداء من فم زينب÷، تكون÷ قد أسست لمفهوم الشهادة والفداء([22]) في سبيل العقيدة، وصحّحت مزاعم الأعداء، بأنّ الحسين قد خرج على ما يُسمى بـ (خليفة المسلمين)، وإنما أرادت أن تقول لهم، إنّ الحسين× جاهد أعداءَ الله تعالى، وهم أنتم؛ فنال الشهادة وصيّر من نفسه الشريف قربانا لله تعالى
وإبقاءً لدينه العزيز.
وإبقاءً لدينه العزيز.
والملحوظ في سلوكيها الخاص والعام، أنها÷ أبدت موازنة قيمية رائعة، بين عاطفتها ومصيبتها بأخوتها الحسين والعباس‘ وغيرهما من أهل بيتها^، وبين شجاعتها في إدارة ملف النهضة الحسينية الشريفة، وأعني التصدي بالخطاب الرسالي الواعي والحكيم، في كل موقف مرّت به جغرافياً. ويتضح موقف السيدة زينب÷ جلياً، وبخاصة عندما تم تسييرهم سبايا من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام.
فأول ما فعله الأعداء المجرمون، حملُ النساء على أقتاب الجمال بغير غطاء، بخلاف ما اعتادت عليه النساء آنذاك في التغطية، عند حملهن على الجمال، ومروا بهنّ على جسد الحسين× وأخوته وأصحابه وهم صرعى. وهنا تضعُ السيدة زينب÷ بصماتها العاطفية الواعية والإعلاميّة، فعندما رأت÷ المنظرَ المفجع للحسين× صاحت÷: >يا محمداه، صلى عليك مليك السماء، هذا حسينٌ مُرمّلُ بالدماء مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا! إلى الله المشتكى، وإلى علي المرتضى، والى فاطمة الزهراء، والى حمزة سيد الشهداء، هذا حسين بالعراء! تسفي عليه الصبا (أي تمر عليه الريح دون وقاء)، قتيل أولاد الأدعياء، واحزناه واكرباه، اليوم مات جدي رسول الله’، يا أصحاب محمداه، هذه ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا! فأذابت القلوب القاسية والجبال الراسية<.([23])
فهذا السلوك من زينب÷، هو عزاء في صورة خطاب واعٍ، توفر على حقانيتها في ندب الحسين× والشهداء من أخوته^، وتوفر أيضا على الموازنة القيمية في التعبير عن التفجع على الحسين× وفضح الأعداء علنا ووجهاً لوجه، إذ أنّ السيدة زينب÷، بقولها: >هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد الأدعياء، واحزناه واكرباه، اليوم مات جدي رسول الله، يا أصحاب محمداه، هذه ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا<، إنما أرادت تنبيه الغافلين من معسكر عمر بن سعد، والمُغرر بهم في حربهم للحسين×، فلخصتْ÷ كلامها بأنّ من قتل الحسين× هم أولاد الزنا في إشارة إلى المتواجدين من العسكر وقادتهم، وهذا هو معنى قولها، >قتيل أولاد الأدعياء<، والعرب تصف المتّهم في نسبه بـ (الدعي).([24])
وأكّدتْ أنّ المُستَهدف حقيقةً هو الرسول الأكرم’، وما تبقى له من ذرية طيبة. فجناية الأعداء على الحسين×، هي جناية على شخص نبينا محمد’، وعلى دينه. وهذا هو معنى قولها÷: >اليوم مات جدي رسول الله، يا أصحاب محمداه، هذه ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا<.
والموقف الآخر، الذي نقرأ فيه شجاعة السيدة زينب÷ وفطنتها وقوتها ورساليتها القيمية في خطاباتها أينما حلّت، وأمام أشرس الظالمين، هو عندما أدخلوا السبايا والرؤوس إلى الكوفة فخرج أهلها للنظر، عندئذ خطبت السيدة زينب÷ بنت علي× تلك الخطبة البليغة، فأعجبتهم ببلاغتها وحيّرتهم بفصاحة منطِقها، حتى ذكّرتهم بأيام أبيها× سيدِ البلغاء، >حتى قال بشير بن خزيم الأسدي: نظرتُ إلى السيدة زينب ابنة علي× يومئذ، ولم أرَ خفرة (أي: امرأة جليلة عظيمة الحياء) والله أنطقَ منها، كأنما تنطق وتفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×. وقال: وقد أومأتْ إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكتت الأصوات، فقالت÷: الحمد لله والصلاة على أبي رسول الله. أما بعد يا أهل الكوفة، ويا أهل الختل والخذل، فلا رقأتِ العبرة (الدمعة)، ولا هدأت الرنة (فلا رقأت، أي: لا جفت الدمعة. ولا هدأت: لا سكنت. الرنة: هي الصوت مع بكاء)، فما مثلكم إلاّ كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا،([25]) تتخذون أيمانَكم دخلا بينكم.
(هذا اقتباس من قوله تعالى {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل:92]، أي: ولا ترجعوا في عهودكم, فيكون مَثَلكم مثل امرأة غزلت غَزْلا وأحكمته ثم نقضته، تجعلون أيمانكم التي حلفتموها عند التعاهد خديعةً لمن عاهدتموه، وتنقضون عهدكم إذا وجدتم جماعة أكثر مالاً ومنفعة من الذين عاهدتموهم، إنما يختبركم الله بما أمركم به من الوفاء بالعهود، وما نهاكم عنه مِن نقضها، وليبيِّن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون في الدنيا، من الإيمان بالله ونبوة محمد’)، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف! (الصلَف بفتح اللام ، أي: مصدر بمعنى التملق، وبكسرها: الذي يُكثر مدحَ نفسه ولا خير عنده. والنطف بفتح الطاء: التلطخ بالريب والعار، وبكسرها: بمعنى النجس. والشنف بالفتح: العداوة والبغض، وبكسرها: المُبغض، خوارون في اللقاء (أي: جُبناء عند لقاء الرجال، وخوارون جمع خوار، أي: جبان)، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيعون للذمة، فبئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون!! إي والله فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا؛ فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا، وأنّى ترحضون قتلَ سليلِ خاتم الرسالة! وسيدَ شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزعَ نازلتكم، وأمارة محجتكم، ومدرجة حجتكم خذلتم، وله فتلتم!! ألا ساء ما تزرون، فتعسا ونكسا، فلقد خاب السعي، وتربت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبُئتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة. ويلكم! أتدرون أي كبد لمحمد فريتم! (أي: أيّ كبدٍ لمحمد’ فتتم بالغم والأذى)، وأي دم له سفكتم، وأي كريمة له أصبتم! (أي: أيّ جارحة للحسين× تجاوزتم عليها، بضربها بالسيف أو النبل أو بالسحق على جسده الشريف بحوافر الخيل ظلما وعدوانا)، لقد جئتم شيئا إدّا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، (وهذا القول اقتباس من قوله تعالى في سورة مريم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم: 89- 90].
لقد جئتم شيئا إدّا، أي: (مُنكرا) عظيما بقتلكم الحسين×، بحيث تكاد السموات يتشقَّقْنَ مِن فظاعة ذلكم الفعل الشنيع، وهو قتل الحسين×، وتتصدع الأرض, وتسقط الجبال سقوطًا شديدًا؛ غضبًا لله)، ولقد أتيتم بها خرقاءَ شوهاء طِلاع الأرض والسماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دما! (الضمير في قولها÷: >أتيتم بها< راجع إلى الفعلة القبيحة، والقضية الشنيعة التي أتوا بها، وهي قتل الحسين× وأخوته وأصحابه وسبي النساء الشريفات. والخرقاء، أي: الحمقاء، أو من الخرق ضد الرفق. والشوهاء، أي: القبيحة. وطلاع الأرض بالكسر، أي: ملؤها)، ولعذاب الآخرة أخزى، فلا يستخفنكم المهل (بمعنى: لا تستخفوا ببطء نزول العذاب عليكم من الله تعالى)، فإنه لا يحفزه البدار، (أي: لا يستعجل في فعله فالله يمهِل ولا يهْمل)، ولا يخاف عليه فوت الثار، كلا إنّ ربك لبالمرصاد. قال: ثم سكتت÷<.([26])
فهذا النص الشريف من لدن السيدة زينب÷، يضع قارئه على ضفاف الحقيقة التاريخية التي حدثت آنذاك، حيثُ كشفت السيدة زينب÷ عن مساوئ المجتمع وسلبياته آنذاك، وما وصل إليه الحال في خذلانه لإمام زمانه الحسين×، والتخلف الفعلي عن نصرته على الطاغية يزيد اللعين، فلا الندم ينفع ولا البكاء الأجوف الذي شابه بوجه ما دموعَ التماسيح.
فخذلان الإمام المعصوم وهو الحسين×، يمثلُ عملاً جباناً لا ينبغي صدوره من مسلم أو مؤمن على أي حال كان! وهذا ما بينته زينب÷، حيثُ اشتدّت في توبيخها لما يُسمى بالرجال آنذاك، ووصفتهم بـ >خوارون في اللقاء<، أي: جُبناء عند لقاء الرجال، وخوارون جمع خوار، أي: رجل جبان.
فهذا النص واقعاً، يضعنا في يومنا هذا في مركز الوعي العمودي والأفقي مع الله سبحانه والمجتمع، فالتعاطف الوجداني لا خير فيه ما لم يُسجّل صاحبُه معه موقفاً خارجا، وعلى الأرض مع إمام زمانه آنذاك الحسين×، وفي يومنا هذا هو إمامنا المهدي×.
باعتبار أنّ السيدة زينب÷ كانت تؤسس في خطاباتها للحق والعدل والإصلاح، وما تبنته نهضة الإمام الحسين× القيمية، فزينب÷ عملت على إكمال ما بدأ به الحسين×، في نهضته الشريفة نهضةِ استرجاع الدين الحق والمنهج القويم، وهي÷ كانت تُخطط في ذهنها الشريف، لإبقاء امتداد نهضة الحسين× ولو بالحد الممكن عرفا آنذاك، وهذا ما تجلى في إصرارها الخطابي الرسالي، وببياناتها القوية بلاغيا وقيميا، حيثُ إنها ما تركتْ فرصة إلاّ وبيّنتْ فيها ظلم الظالمين، وعدوانهم على آل محمد^، فكانت÷ بحق مصداقاً لقول جدها رسول الله’: >أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر<.([27])
ولقد تجلى الموقف الآخر للسيدة زينب÷، عندما أدخلوا الرأس الشريف للإمام الحسين× في قصر إمارة ابن زياد (ابن مرجانة) في الكوفة، وأظهر اللعين عمر بن سعد الشماتة بالحسين× وأمام ابن زياد الشامت هو الآخر بالحسين×، هنا برز دور بطلة عاشوراء ونهضةِ الإمام الحسين× السيدةِ زينب÷، إذ أنّها÷ اتخذت ناحيةً من القصر ومعها النساء المسبيّات، وفي وضع محتشم ومَهيب وجليل ومستور؛ حتى قال ابن زياد اللعين: مَنْ هذه المُتنَكّرة؟ فلم تُجبه زينب÷، فأعادها ثانية وثالثة، فقالتْ له بعض إمائها: هذه زينب÷ ابنة فاطمة بنت رسول الله’؛ فأقبل عليها ابن زياد لعنه الله تعالى، وقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم، (وهذا تصريح واقعي بضلالة ابن زياد علنا؛ إذ أنه هنا أنكر فضل النبي محمد’ وآل بيته^، وكذّب رسالة الإسلام الأصيل، فهذا هو معنى قوله: وأكذبَ أحدوثتكم.
وحتى لو تنزلنا بكون مقصوده هو التكذيب بحق الحسين× في رفض بيعة يزيد ومقارعته، فهو هنا أيضا كذبّ بحق الحسين× والمُكذّب بحق الحسين× في نهضته وإمامته الحقة، هو ضالٌ اعتقادا وعملا ؛ لأنّ الإمام الحسين× إمام حق وصدق. فقالت زينب÷: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد’، وطهرنا من الرجس تطهيرا، (في إشارة منها÷ إلى كرامة أهل البيت^ وعصمتهم قرآنيا، حيثُ قال تعالى {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور} [الشورى: 23]، بمعنى: قل لهم -أيها الرسول الأكرم محمد’- لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به عوضًا من أي شيء منكم، إلاّ أن تَوَدُّونني في أهل بيتي؛ تكريما لهم^، ومن يكتسب حسنة نضاعفْها له بعشر فصاعدًا، إن الله غفور لذنوب عباده, شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه. وقوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33])، ثم قالت÷: وإنما يُفتضحُ الفاسقُ ويُكذَب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.
فزينب÷ هنا عرّضت بابن زياد ووبخته علناً، وجعلته فاسقا فاجرا بحكم قولها: >إنما يُفتضحُ الفاسقُ ويُكذَبُ الفاجرُ وهو غيرنا يا ابن زياد<، فقال ابن زياد: كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتكِ؟ قالت÷: كَتبَ اللهُ عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم. وهذا اقتباس رائع وهادف، أخذته السيدة زينب÷ من قوله تعالى {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، أي، بمعنى: قل لهم -أيها الرسول الأكرم محمد’، إنّ الأمرَ كلَّه لله تعالى، فهو الذي قدَّر خروجكم وما حدث لكم واستشهادَكم في سبيله تعالى، وقل لهم، إنّ الآجال بيد الله, ولو كنتم في بيوتكم, وقدَّر الله أنكم تموتون, لخرج الذين كتب الله عليهم الموت إلى حيث يُقْتلون، وما جعل الله ذلك إلا ليختبرَ ما في صدوركم من القدرة على الشهادة في سبيله سبحانه، ويظهرَ أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال، والله عليم بما في صدور خلقه, لا يخفى عليه شيء من أمورهم.
ثم قالتْ÷: وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّون إليه وتختصمون عنده. فغضب ابن زياد واستشاط، فقال عمرو بن حريث: أيها الأمير، إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، ولا تُذم على خطابها، فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاةِ من أهل بيتك.
فَزَقّتْ (أي: صاحت) زينب÷ وبكت، وقالت له: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبدتَ أهلي، وقطعتَ فرعي، واجتثثتَ أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيتَ، فقال ابن زياد: هذه سجّاعة، (أي: تتَكَلَّم بكلام له فَواصِلُ كفواصِلِ الشِّعْر من غير وزن، و سَجّاعةٌ، هو من الإسْتِواءِ والإستقامةِ والإشتباهِ كأَن كل كلمة تشبه صاحبتها). ولعمري لقد كان أبوها سجّاعا شاعرا، فقالت السيدة زينب÷: ما للمرأة والسجّاعة؟ إنّ لي عن السجّاعة لشغلا، ولكن صدري نفث (أي: نفخ وأخرج الكلام) بما قُلتْ.([28])
وفي رواية أخرى: فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيكِ وأهل بيتك؟ فقالت زينب÷: ما رأيتُ إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فإنظر لمن الفلج (النصر والغلبة) يومئذ، ثكلتك أمك (ثَكِلَتْك أُمُّك أَي فَقَدتْك فقدَ الوَلد، كأَنها÷ دعتْ عليه بالموت لسوء فعله و قوله)،يا ابن مرجانة.([29])
وهذه صاعقة أخرى أنزلتها زينب÷ لتحرق وتحطم طاغوتية ابن مرجانة؛ فتوصيف زينب÷ لابن زياد بابن مرجانة، فيه من الغايات ما لا تخفى على أحد، والعرب إذا أرادت إهانة احدٍ أو تعريف بأصله فتذكره بأمه؛ كي يعي حاله وما هو عليه. فالمُلاحَظُ في هذا النص الوثائقي من لدن السيدة زينب÷:
1- تصديها القوي والعلني والمُباشر للطاغية ابن زياد، وفضحه في عقر داره وأمام الملأ، حتى أعجزت÷ ابنَ زياد عن مغالبتها في البيان الذي بيّنته ببلاغتها المتينة، إلى أن قال فيها، (سجّاعة أو شاعرة) كأبيها×؛ فراراً من القدرة على مواجهتها بيانيا، حتى أنها÷ ردته في تهمته هذه لها÷، فقالت له: ما للمرأة والسجّاعة! إنّ لي عن السجّاعة لشغلا، ولكن صدري نفث (أي: نفخ وأخرج الكلام) بما قُلتْ.
2- توفّر خطاب السيدة زينب÷ على مشموليةٍ للنص القرآني والدفاع عن حق أهل البيت المعصومين^، وبيان حال الطاغية ابن زياد على واقعه، فزينب÷ لم تخف من إظهار الحقيقة النسبية لابن زياد، بحيث سمته بابن مرجانة ودعت عليه بالموت والهلاك.
3- هذا السلوك يكشف شجاعة كبيرة وإيماناً راسخاً وصُلباً ومكيناً في شخصية السيدة زينب÷. وإن خطاب زينب÷ هذا، يمتدّ بقيمه الكبيرة ليشمل وقتنا هذا بضرورة الأخذ من مرتكزاته الذاتية، نحو حفظها لكتاب الله تعالى والإستشهاد به، في حال تشخيص الرد على الضالين والمنحرفين فكريا وسلوكيا.([30])
4- وهو أيضا يطلُّ علينا برامزية السيدة زينب÷ وأسويّتها الحسنة للنساء أجمعين، بعد أمها الصديقة الزهراء÷، إذ أنّ كل الذي قامت به÷ أمام طاغية لا يُؤمَنُ شره، قد أجرم بحق الحسين× وأهل بيته وأخوته وأصحابه، ربما يعجز عنه الكثير من الرجالن ولكنها لم تستسلم للطاغية بل أظهرت الإباء والتحدي له.
الفصل الأخير في حياة زينب÷
ثقافتها الإعلامية وصبرها وانتصارها امرأةً
إنّ المرأة عامةً هي إنسانة مساوية للرجل في بشريّتها وكرامتها، وربما في تكليفها،([31]) فقد تفرِض عليها أحيانا قواهرُ الحياة مَهمة صعبة جداً، قد لا تقدر على تحملها بحكم تركيبها الجسمي والعاطفي، وقلما نجد من النساء من تصمد أمام فاجعة تُفجع فيها، بقتل أخوتها وبنيها وسبْيها، ولكن مع السيدة زينب÷ يبدو الأمرُ مُختلفاً تماما؛ فقد ضربت رقما صعبا في صلابتها وصبرها، وأبرزت ثقافتَها ثقافةَ المواجهة الواعية إعلاميا ضد الخصم، الذي يمتلك أدوات القمع والتنكيل بخصمه ولا يتورع عن استعمالها تجاهه.
إنّ السيدة زينبَ÷ عاشت مفرداتِ شهادة الحسين×، بوعي وصبر وحكمة, وتكملة للمسيرة, تحقيقاً لأهداف الحسين×، وهي الإصلاح والوعي والرجوع إلى الصراط الحق.
وعلى الرغم من هذا وذاك، لم تستسلم زينب÷، بل قويت في أمر الله تعالى، وانتفضت وأسقطت الطاغية يزيد وتحدّته، وقالت÷ قولتها؛ فحفظها التاريخ: >ولئِن جرّت علي الدواهي مخاطبَتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكا مغرماً،([32]) حين لا تجد إلاّ ما قدمتْ يداك، وما ربّك بظلام للعبيد... فكِد كيدك,([33]) واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا ّفند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي، ألا لعنة الله على الظالمين<.([34])
وعلى الرغم من هذا وذاك، لم تستسلم زينب÷، بل قويت في أمر الله تعالى، وانتفضت وأسقطت الطاغية يزيد وتحدّته، وقالت÷ قولتها؛ فحفظها التاريخ: >ولئِن جرّت علي الدواهي مخاطبَتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكا مغرماً،([32]) حين لا تجد إلاّ ما قدمتْ يداك، وما ربّك بظلام للعبيد... فكِد كيدك,([33]) واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا ّفند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي، ألا لعنة الله على الظالمين<.([34])
تلك كلمات زينب÷، تقرأ فيها فطنةَ الذهن ويقين الايمان وصلابة الموقف وبراعة البيان، وشخصنة نوايا الأعداء، في حربهم المضادة لمحمد’ ووحيه وأهل بيته المعصومين^. فزينب÷، هي أول امرأة مسلمة وبّخَت طاغية الوقت، حين قالت له: >أمن العدل يا بن الطلقاء، تخديرُك حرائرَك وإمائك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حُماتهن حمي ولا من رجالهن ولي...<،([35]) حتى أزعجته وأغضبته؛ فأنشد:
يا صيحةً تحمدُ من صوائح
ما أهون النوح على النوائح
وفي هذه المقاطع تتبين أوجاع زينب÷، وحسراتها على محاذيرَ كانت تتحفظ عليها÷، أولها حجابُها واحتجابها،
وثانيها تعجّبها من ستر الطاغية لنسائه وإمائه، واستضعافه للسبايا. نعم، هكذا هي زينب الصبور المفجوعة، تبقى عامرة الإيمان، وصلبة في الميدان؛ فحري بنا رجالاً ونساءً، أن نفهم زينب÷ فهما واعيا وهادفا، نستنطق العِبر من نصوصها، ونحفظ كلماتها؛ لأنها كلمات علي×، ونحترف بلاغَتها،([36]) فإنها عالمة غير مُعلّمة، وفهِمة غير مُفهّمة،([37]) على حد قول الإمام زين العابدين×.
وثانيها تعجّبها من ستر الطاغية لنسائه وإمائه، واستضعافه للسبايا. نعم، هكذا هي زينب الصبور المفجوعة، تبقى عامرة الإيمان، وصلبة في الميدان؛ فحري بنا رجالاً ونساءً، أن نفهم زينب÷ فهما واعيا وهادفا، نستنطق العِبر من نصوصها، ونحفظ كلماتها؛ لأنها كلمات علي×، ونحترف بلاغَتها،([36]) فإنها عالمة غير مُعلّمة، وفهِمة غير مُفهّمة،([37]) على حد قول الإمام زين العابدين×.
نعم، لذكراها نبكي، ولكن لنعي ما تهدف إليه÷. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
([3]) كان من العرب في الجاهلية من يسمي الأولادَ بأسماء اعتباطية، فكان للإسلام توجيه للناس إلى اختيار الإسم ذي المعنى وذي الفأل الحسن. >كانت العرب تسمي أولادها على الفأل، وإذا ولد له ولد يخرج، فأول↔ شيء يستقبله سماه به: كلب، وكليب، وعرفطة، وعوسجة، ولم يكن إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وهذه الأسماء من أسماء العرب<. تهذيب الكمال، للمزي، ج21، ص66.
([13]) {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90]. ونلحظ عدم سؤال الأجر، بل طلب↔ الإقتداء فقط، وهي إشارة إلى أهل بيت النبي’، في آية القربى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
([14]) منهم: لقمان الحكيم {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، والخضر {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، ومريم {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37].
([15]) جعفر الطيار، أخو علي× لأبويه، وكان أسن منه بعشر سنين، قتل شهيدا سنة 8 ه . أسد الغابة: 1: 286 وأعيان الشيعة: 4: 118. وإن الله تعالى أبدله بيديه المقطوعتين في معركة مؤتة جناحين يطير بهما في الجنة. وله صلاة جعفر الطيار. وابنه عبد الله الذي يُروى عن سليم بن قيس، قال : سمعت عبد الله بن جعفر الطيار، يقول: كنا عند معاوية، أنا والحسن↔ والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن أم سلمة وأسامة بن زيد، فجرى بيني وبين معاوية كلام؛ فقلت لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول: >أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين من أنفسهم...<. الكافي، للكليني: 1: 529. وفي معجم رجال الحديث: 11: 147. >أقول: جلالة عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب، بمرتبة لا حاجة معها إلى الإطراء<.
([20]) وذلك من خلال معرفة الإمام×، والتفكّر في وجوده؛ ليكون ذلك دافعاً إلى المزيد من الإلتزام العبادي، وتحسين السلوك الأخلاقي، وعدم الإنسياق وراء المناهج الحياتية غير الإسلامية، والتي توقع المرأةَ في متاهات، تبعدها عن وظيفتها المقدسة، في تنشئة الأسرة، وتربية الأطفال، والحفاظ على المجتمع قويماً خالياً من الإنحرافات.
([21]) حياة الإمام الحسين×: باقر شريف القرشي، 2: 300. >والقُربان: القُربة... وفي الحديث القدسي: >من تقرّب إليّ شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً<، المُراد بقرب العبد إلى الله تعالى، القربُ بالذكر والعمل الصالح... والمُرادُ بقرب الله تعالى من العبد قربُ نعمه وألطافه وبرّه وإحسانه إليه↔ وترادف مننه وفيض مواهبه عليه<. مجمع البحرين: مادة: (قرب). والعقيلة÷ تكلّمت بلسان شيعة الحسين×.
([24]) نلحظ مدى دقة المناسبة في استعمال زينب÷ لمفردة (الدعي)؛ ذلك أن من عادات العرب في الحرب، أن يعلن المحارب اسمه ونسبه، فيقول: (أنا فلان بن فلان)، وهذا ما فعله الحسين× عندما قال: >أيها الناس، انسبوني من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيكم!<. ولكن أعداءه لم ينسبوا↔ أنفسهم؛ فهم أدعياء في أنسابهم وفي حروبهم وفي سكوتهم أمام اتهام زينب÷ لهم في نسبهم!
0 التعليقات:
إرسال تعليق