الشفاعة في الإسلام
يا وجيهاً عند الله إشفع لنا عند الله
إعداد
حبيب ظاهر الكسّار
تحقيق : مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله المعصومين...
يمتاز الدينُ الإسلامي العزيز بأنه دينُ الدنيا والآخرة؛ فلذا يجبُ شرعا وعقلا على المسلم أن يهتم بالجانبين، فيعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، ويتزوّد من حياته الحاضرة لحياته الآخرة الأبدية في غدٍ. ولهذا يكون من الواجب على المسلم أن يعملَ بالفرائض الدينية، ويجتنب المُحرّمات الإلهية، ويلتزمَ بمقررات الشرع الحنيف قدر المستطاع، كما نصت الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وصرَّحت بضرورة العمل والطاعة للحصول على النجاة والسعادة الأخروية.
ولكنّ الإنسان خُلِقَ ضعيفا بحُكم جِبلّته، مُحاصَراً بالشهوات، ومُحاطا بالغرائز، ولذلك ربّما يسهو ويلهو، أو يعصي، فيستحوذ عليه الشيطان مُوقِعَاً إياه في شِراكه، فيعصي الإنسان حينها ربّه ويُخالفه، وحينما يصحو بفعل ضغط الوجدان ووخز الضمير، فهل له أن ييأس ويقنط في هذه الحال؟ وقد قال الله تعالى{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] كلا، ليس للإنسان المسلم والمؤمن إلاّ الرجاء في رحمة الله تعالى، والأمل في عفوِه سبحانه ولطفِه، فمن هنا قد فتح الله تعالى في منظومته القيمية نوافذَ الأمل والرجاء أمام العاصي والنادم؛ ليعود إلى ربه ويُواصل مسيرة التكامل في ثقة وطمأنينة، ومن أبرز هذه النوافذ الربانية، التوبةُ والإنابة الصادقة إليه سبحانه، والاستغفار اللفظي والفعلي، والشفاعة، والتي سيكون الحديثُ عنها في محورين مهمَين جداً هما:
أ- أصل ثبوت الشفاعة في العقيدة الإسلامية.
ب- موضوع الشفاعة.
أ- أصل ثبوت الشفاعة في العقيدة الإسلامية
ويشتمل هذا العنوان على ثلاثة مُرتكزات أساسية وهي:
1- الشفاعة في القرآن الكريم/ ثبوتها نصّياً.
2- الشفاعة في السّنة النبوية الشريفة ودلالاتها.
3- الشفاعة ومفهومها عند عامة علماء المسلمين.
1- الشفاعة في القرآن الكريم/ ثبوتها نصّياً.
عند البداية، لا بد من تعريفِ معنى الشفاعة وتوضيحها مفهوماً، فهي عفو الله تعالى الخاص عن عباده المستحقّين للعقوبة، وبتوسّطه سبحانه مباشرة، يوم يقوم الناسُ لربّ العالمين، أو بتوسّط مَن أذِن له سبحانه وتعالى وارتضاه شفيعا، منهم الأنبياء والأئمة المعصومون^.
إنّ القرآن الكريم في جملة من آياته أثبتَ الشفاعة، فمن هذه الآيات ما دلت على حصر الشفاعة بالله تعالى، ما في قوله سبحانه {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] وفي قوله سبحانه {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] ومن الآيات ما نفت الشفاعةَ عن غيره من دون إذنه، قوله تعالى {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس: 3] وقوله تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
ومما يدلُ على أنّه يمكن لبعض عباد الله الصالحين، أن يشفع عنده سبحانه، ولكن بإذنه تعالى، هو قوله عزّ وجل {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وهنالك طائفة أخرى من الآيات الشريفة، دلّت على أنّ ثمّةَ فريقاً من الناس، أعطاهم الله تعالى رتبة التشفّع، منها في قوله تعالى {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم: 87] وأيضاً قوله تعالى {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. إذن، فالذين يشهدون بالحق، والذين اتخذوا عند الرحمن عهدا، يملكون التشفع والشفاعة عنده سبحانه وبإذنه. والظاهر أنّ الشفاعة أيضا، تُمنَح إلى فريقٍ من الملائكة المُقربين لله سبحانه، وهو في قوله تعالى {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] وعند نهاية المطاف، نعلم أنّ الشفاعة تارة لا تكون إلاّ لله وحده حصراً، وأخرى يمنحها سبحانه وبإذنه لجملة من أوليائه الصالحين، منهم الأنبياء والأئمة، أو حتى الملائكة المقربين.
وهناك من الآيات الكريمة ما دل بالمعنى -من دون اللفظ- على الشفاعة، منها ما في قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فيلحظ أن استغفار من ارتكب الذنب أو الخطيئة -دون الشرك- لوحده غير كافٍ إلا بتوسط النبي’ وتشفّعه {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} حينها تقبل توبتهم {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}.
ومنها قوله تعالى {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 97- 98] وهنا أيضا نجد أن أخوة يوسف وسّطوا أباهم في مسألة التوبة والتكفير عن خطيئتهم.
2- الشفاعة في السّنة النبوية الشريفة ودلالاتها
إنّ مسألة الشفاعة قد تختلف عن الكثير من المسائل العقديّة الأخرى، التي كثُرَ الجدل والكلام حولها؛ لأنّها -أي الشفاعة- جاءت في نصوص قرآنية واضحة وصريحة، فلذا نجدها بالوضوح والصراحة نفسيهما، في السُنّة النبوية الشريفة، أحاديثِ الرسول الأكرم محمد’ وآلِ بيته المعصومين^. وإليك بعضا منها:
3- قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين×، في دعاء له: >وتعطّف عليَّ بجودك وكرمك، وأصلِح مني ما كان فاسدا، وتقبّل مني ما كان صالحا، وشفّع فيَّ محمدا وآل محمد، واستجب دعائي، وارحم تضرعي وشكواي<. (هامش) (الصحيفة السجادية).
4- عن ابن عباسt أنّ رسول الله’، قال: >اُعطيتُ خمسا لم يُعطهنَّ نبي قبلي، ولا أقولُهنّ فخرا، بُعُثتُ إلى الناس كافة الأحمرِ والأسود، ونصُرتُ بالرعب مسيرة شهر، واُحلَت ليّ الغنائم، وجُعِلَت لي الأرض مسجدا وطهورا، واُعطيتُ الشفاعة فاخترتها لأمتي، فهي لِمَن لا يشرك بالله شيئا<.([3])
5- >سأل المنصور العباسي مالكَ بن أنس -إمام المالكية- عن كيفية زيارة رسول الله’ والتوسل به... فقال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله؟ فقال مالك في جوابه: لمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة! بل استقبله واستشفع به فيشفّعك الله، وتلا قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]<.([4])
6- عن أنس بن مالك، عن أبيه، قوله: سألتُ النبي’ أن يشفع لي يوم القيامة، فقال’: >أنا فاعلٌ< قال: قُلتُ يا رسول الله فأين أطلبُك؟ فقال’: >أطلبني أول ما تطلبني على الصراط<.([5])
7- وله’ >في القيامة ثلاث شفاعات، أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم، وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له’، وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم من الصالحين، فيشفع’ فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها<.([6])
3- الشفاعة ومفهومها عند عامة علماء المسلمين
يكادُ أن يجمع علماءُ المسلمين على وجود الشفاعة، وأنها تنال المؤمنين، لكنّ بعضهم ناقش في سعة مفهوم الشفاعة وضيقه....
آراء العلماء وأقوالهم في مفهوم الشفاعة
1- >إتفقت الإماميّة على أنّ رسول الله’ يشفع يوم القيامة، لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته، وأنّ أميرَ المؤمنين× يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأنّ أئمة أهل البيت^ كذلك، وينجّي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين<.([7])
2- قال الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن (ت460هـ): >... والشفاعة ثبتت عندنا للنبي’، وكثير من أصحابه، ولجميع الأئمة المعصومين، وكثير من المؤمنين الصالحين<.([8])
3- قال العلامة المحقق الطبرسي (ت548هـ): >... وهي ثابتة عندنا للنبي’، ولأصحابه المُنتَجَبين، والأئمة من أهل بيته الطاهرين^، ولصالحي المؤمنين...<.([9])
4- قال العلامة المجلسي (ت1110هـ): >أما الشفاعة، فاعلم أنه لا خلاف فيها بين المسلمين، بأنها من ضروريات الدين، وذلك بأنّ الرسول‘ يشفع لأمته يوم القيامة، بل للأمم الأخرى، غير أنّ الخلاف هو في معنى الشفاعة وآثارها، هل هي بمعنى الزيادة في المثوبات، أم إسقاط العقوبة عن المذنبين؟ ذهبت الشيعة إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب، وإن كانت ذنوبهم من الكبائر، ويعتقدون بأنّ الشفاعة ليست منحصرة بالنبي’ والأئمة^ من بعده، بل للصالحين أن يشفعوا بعده، وبإذن الله تعالى لهم بذلك<.([10])
6- >وأما من جحد الشفاعة، فهو جديرٌ أن لا ينالها، وأما من آمن بها وصدقها -وهم أهل السنة والجماعة- فأولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنما اٌدخرت لهم<.([12])
7- >مذهب أهل السنة هو جواز الشفاعة عقلا، ووجودها سمعا، بصريح الآيات وخبر الصادق، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر، بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومَن بعدهم من أهل السنة عليها...<.([13])
ب- موضوع الشفاعة
إنّ الإنسان بعد الموت، يكون في واحدة من حالات ثلاث، إما لا ذنب له حتى خلت صحيفة أعماله من الذنوب، وإما مشرك فينال العقاب، وإما مذنب ارتكب ما دون الشرك، فهذا الإنسان هو الذي يُتَصوّر في حقه الشفاعة؛ لأنّ الإنسان المطيع لله في كل شيء، والذي خلت صحائف عمله من الذنوب، لا يحتاج إلى الشفاعة، بل ربما يطمح إليها لنيل المراتب العالية، أكثر مما يؤهله لها عمله، ولكنه لا يحتاج إلى الشفاعة ليتخلّص من العقاب.
أما المشرك فقد دلَّ صريح القرآن الكريم، على أنه لا تؤثّر في حقه الشفاعة؛ لأنّ باب المغفرة فيما يخصه قد أُغلق، بنص القرآن الكريم في قوله تعالى{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] ولا تُغفَر جريمة الشرك إلاّ بالتوبة.
فإذن موضوع الشفاعة هو لأعمال الإنسان في ما دون الشرك، بشرط أهليّة ذلك الإنسان لاستحقاق المغفرة. وظاهر الآيات القرآنية، أنّ كل إنسان غير مشرك مؤهل لتلقّي المغفرة الإلهية ونعمة الشفاعة؛ لأن مفهوم {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} هو أنّ مشيئة الله تعالى، يمكن أن تتعلق بأي إنسان مذنب، فيغفر له غفرانا مباشرا، باستغفار العبد لنفسه، أو يغفر له بشفاعة الشافعين، أي أنّ السبب الأساس يكون موجودا، ولكنه ناقصٌ فتتمّمه الشفاعة؛ نتيجةً لوجود أهلية في ذلك الإنسان الذي هو مورد لتطبيق الشفاعة.
أما الإنسان الفاقد لكل أهلية، فلا يمكن أن يكون مورداً للشفاعة. ومن أجل أن تتحقق الشفاعة لا بد من توفر ثلاثة عناصر وهي: (المشفوع عنده وهو الله تعالى) و(الشفيع) و(المشفوع له وهو الإنسان المذنب)، والحيثيات التي تؤهل للشفاعة، هي عِزّة المولى تعالى (المشفوع عنده) بعدّهِ قويا قادرا، غنيا رحيما رؤوفا، وأهلية (المشفوع له)، وأهلية (الشفيع). ومعنى أهلية الشفيع، هو أن يكون له مقام كريم عند الله تعالى، حتى يدخُل في الاستثناء الذي تضمنته الآيات المذكورة سابقا، بأن يكون مأذونا له، وأن يكون مرضيا عند الله سبحانه، وأن يكون ممن اتخذ عند الرحمن عهدا، وأن يكون ممن شهد بالحق، وما إلى ذلك. فهذه العناصر الثلاثة، تتضافر كلها لتجعل من عملية الشفاعة أمراً ممكن الوقوع، ومؤثّرا إذا وقع.
وجوهر الشفاعة، أنها بملاحظة هذه العوامل، تُخرِج المذنب من كونه موردا للعدالة بسبب من ذنبه، إلى كونه موردا للرحمة بسبب من حاله الذي يستدعي الرحمة، وبسبب من مقام الشافع العظيم الذي يستدعي إظهار كرامته، وبسبب من رحمة المشفوع عنده وعظمته وغناه، وما إلى ذلك. فالشفاعة ليست تغييرا للتشريع، بل تبديلاً في الموضوع، وإذا تبدَّلَ الموضوع يتبدل الحكم. هذا وقد أثبت الله تعالى في القرآن الكريم، أنه يُبدّل السيئاتِ إلى حسنات، أي أنّ المُسيء يُمكن أن يرفع الله عنه إساءته أو يلغيها، كما يمكن أن يجعل بدلها الحسنة، كما نصت الآية الشريفة {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70] هذا التبديل قد يكون بعمل العبد نفسه، وقد يكون بواسطة الشفاعة. وأظهر وأشمل من ذلك قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
فالله تعالى يغفر بقبوله استغفار عبدِه المذنب، أو يغفر بتوسط الشفاعة. والشفاعة هي إحدى العلل المتوسطة بين إرادته ورحمته وعدله جلّ وعلا، وبين عمل العباد، وهذه العلة المتوسطة هي ما يقوم به الأنبياء والأولياء، وسائر العباد المقربين، من الشفاعة لأهل المعاصي، وبهذا يكون تعالى هو الشافع والمشفوع عنده، فقوله تعالى {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44] وقوله تعالى {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]. وغير ذلك من الآيات الخاصة بحصر الشفاعة به تعالى، ولا يمنع من توسط غيره من الصالحين للتشفع، وبإذنه سبحانه؛ لأنّ الشفاعةَ منزلة من منازل المُقربين عنده تعالى، فتمليكه لهم إياها تكريم منه تعالى إليهم.
وبملاحظة الوحي القرآني، فإنّ قوله تعالى {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] يدُل على أنّ الشفيع يدعو لله تعالى أن يسامح المُقَصّر في العمل، وإذا كان للطالب حرمة وكرامة عند صاحب الحق، فعفوه عن تقصير المُقَصّر إظهارٌ لكرامة الشفيع عنده تعالى. فذلك أمرٌ حسن عند العقل والعقلاء، وبالاعتبار الشرعي، فإن الأدلة الشرعية دلت على أنّ الله تعالى، أراد أن يُظهر كرامة الأنبياء والأئمة^ على مدى الدهور في عالم الشهادة وعالم الغيب، أمام سائر المخلوقات الإلهية. فالأئمة والأنبياء^ في عالم الآخرة والحساب، هم مورد تكريمِ الله وتعظيمه لهم. ومن موارد تكريمه تعالى لهم، أنهم يشفعون فيستجيبَ لهم، فهم بطلبهم الشفاعة للعباد المذنبين، لا يطلبون ما خالف الشرع الإلهي، بل يجعلون من أنفسهم الشريفة، مقتضىً لرحمة الله تعالى بعباده العاصين. فالله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وهذه المشيئة الإلهية من جملة شروطٍ تحققها شفاعة ذوي المقامات العالية، من الأنبياء والأوصياء والصالحين.
وقد ثبّتَ الله تعالى وعدَه بتكفير الصغائر عمّن اجتنب الكبائر، فقال تعالى{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] فمن مات وعليه ذنوب، فهو من مرتكبي المعاصي الكبيرة، وهؤلاء هم موضع تطبيق الشفاعة، وهم الذين قال النبي’ في شأنهم: >إنما شفاعتي لأهل الكبائر ...عدا الشرك... من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل<. وهذه العقيدة عقيدة إسلامية عامة، لا تختص بالمسلمين الشيعةِ الإمامية. ومُنكر الشفاعة هو مُنكرٌ لأحد المُسلّمات الدينية في الإسلام، وهي ركنٌ عقدي من أركان اعتقاد الشيعة الإماميّة.
والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق