الإمام
الحسين(ع)
يختار
الشهادة
بحث
موضوعي تحليلي
في
مشروعيّة الموقف وحقانيّته
إعداد
مرتضى
علي الحلي
مؤسسة
أحباب الصدّيقة الطاهرة(ع)
النجف
الأشرف
إطلالة
البحث
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله
المعصومين.
منذُ اللحظات الأولى لولادة الإمام الحسين×، اقترنت فرحة
المولود المعصوم الجديد بالحزن والبكاء، لا سيما من شخص خاتم النبيين محمد’، عندما
قدَّمَت له أسماء بنت عُمَيس الوليدَ الجديد الحسين×, فاستبشر’ وبكى في الوقت
نفسه، حتى أنّ أسماء بنت عميس([1])
تعجّبَت من ذلك! فقالت للرسول’: ممَّ بُكاؤك يا رسول الله؟ قال’: >مِن ابني هذا<،
قالت أسماء: إنه ولِدَ الساعة! قال’: >يا أسماء تقتله الفئة الباغية([2])
بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي<، ثمّ قال’: >يا أسماء لا تُخبري فاطمة؛ فإنها حديثة عهد
بولادته.([3])
فمن هنا بدأت محنة الإمام الحسين×، والتي بقيت وستبقى
تُلامس الوجدان الحي، وتتفاعل في الذهن الواعي وقتاً بعد وقت، حقيقةً لا تندثر اكتسبت
قداستها من ربها تعالى، فعاشت عبر التاريخ ومرّت بالأجيال البشرية طيلة قرون،
ناشرةً في الآفاق مقولاتِ الحرية والإنعتاق والشهادة في سبيل الله سبحانه.
إنّ الحسين× جسّدَ رسالة الإسلام العزيز فكرا وعملا ومنهجا،
وما اختياره الشهادةَ والقتل في سبيل الله تعالى؛ إلاّ من أجل إدامة المدد الإلهي
ورحمة الإسلام وتعاليمه للبشرية عامة. فالحسين× نال منزلة عظمية من لدن الله تعالى،
فهو× من الخمسة المعصومين^، من أهل العباءة والمباهلة وأهل البيت الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، بنص القرآن الكريم، ومشمولٌ× بآية المودة والولاية،
وغيرها من سورة الإنسان وآية الأسوة الحسنة.([4])
وهو× عند رسول الله’ قد حظي بحب خاص ومقدس من لدن شخصه’، وكثيرا ما عبّر عنه’ في
مواضع عدة.
فقد ذكر الترمذي -وهو من أبناء العامة- في صحيحه، أنّ
الرسول’ قال: >حسين مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينا، حسين سبط من الأسباط<([5])
وقال رسول الله’: >من أحبني وأحبّ هذين -أي الحسن والحسين‘بعدما أمسك بيدهما-
وأباهما كان معي في الجنة<،([6])
فحقيقة حب الرسول الأكرم محمد’ لسبطه الحسين× من الشهرة بمكان، بحيث نقلها المؤالف
والمخالف.
ولا نحتاج لمزيد من التدليل عليها بالأحاديث الكثيرة، فمن
شاء التوسعة فليراجع كتب المخالفين قبل المحبين، فسيجدها شمسا ساطعة في التاريخ.
فالحسين× انطلق بشخصه الشريف، وواقعه المعصوم من طهارة كساء
نبينا محمد’، ومن حِجر علي× متغذيا من حنان الزهراء÷، مُجسدا رسالة الإسلام العزيز
فكرا وعملا وسلوكا.
ذلك الحسين الإنسان الكامل والرباني، الذي >كان ينقل
المؤن الغذائية على ظهره الشريف، إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين، فوُجِد
على ظهره× يوم الطف أثرٌ، فسُئِل الإمام زين العابدين× عن ذلك، فقال× هذا مما كان
ينقل الجراب على ظهره، إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين. وأما في تواضعه×،
فذات يوم [>مرّ× بمساكين وهم يأكلون كِسراً على كساء، فسلم عليهم فدعوه إلى
طعامهم، فجلس معهم، وقال لو أنه صدقة لأكلت معكم، ثم قال× قوموا إلى منزلي، فأطعمهم
وكساهم وأمر لهم بدراهم<، وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق، أنه × مر بمساكين
يأكلون في الصُفّة،([7])
فقالوا الغداء فنزل×، وقال إن الله لا يحب المتكبرين، فتغدى ثم قال لهم، قد أجبتكم
فأجيبوني، قالوا نعم، فمضى بهم إلى منزله وقال للرباب خادمته، اخرجي ما كنت تدخرين<].([8])
كان الإمام الحسين× يخاف الله تعالى في كل شيء؛
حتى قيل له يوما، ما أعظم خوفك من ربّك! فقال×: >لا يأمن من يوم القيامة إلاّ من خاف الله في الدنيا<.([9]) وفي ليلة عاشوراء من محرم الحرام، قد رأى العالم كله كيف أنّ الإمام× لم يترك عبادة الله لحظة أبدا، حتى أنه طلب من الأعداء إمهاله ليلة واحدة للصلاة والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم.
حتى قيل له يوما، ما أعظم خوفك من ربّك! فقال×: >لا يأمن من يوم القيامة إلاّ من خاف الله في الدنيا<.([9]) وفي ليلة عاشوراء من محرم الحرام، قد رأى العالم كله كيف أنّ الإمام× لم يترك عبادة الله لحظة أبدا، حتى أنه طلب من الأعداء إمهاله ليلة واحدة للصلاة والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم.
{وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3]
(ووُلد
الحسينُ×)
إنّ ولادة الإمام الحسين×، كانت إيذاناً بالبدء بسلسلة
المعصومين التسعة× من ذريته ومناهجهم السديدة للبشرية، والإنتهاء بخاتمهم الإمام
المهدي× يوم ظهوره، ويوم يظهر الدين كله ولو كره المشركون.([10])
فالقرآن الكريم أشار ضمناً بولادة الحسين× في سورة البلد، {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا
الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:
1- 3]، فالبلد يُقصد به مكة المكرّمة، فأقسم به تعالى لعِظَم بيته الذي هو فيها، وقوله
تعالى {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} وعدٌ منه تعالى لرسوله الكريم محمد’
بفتح مكة بلده الأصيل، ونشر راية التوحيد فيها مستقبلا؛ لأنّ السورة نزلت في
المدينة، وهذا باتفاق المفسرين كافة.
وهنا نضيف فهما ووعيا جديدا للنص {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا
الْبَلَدِ}، فالله تعالى الذي وعد رسوله بفتح مكة ظافرا، سيحقق -يقيناً- وعده
تعالى بظهور الدين كله على يد آخر المعصومين^ وهو الإمام المهدي×؛ لأنّ فتح مكة
المكرمة هو أول خطوة في حركة ظهور الدين الإسلامي وانطلاقه عالمياً، فالروايات
الصحيحة تؤكّد أنّ أول ظهور للإمام المهدي×، يكون في مكة بين الركن والمقام.
فقسم الله تعالى لم يأتِ جزافا دون أن يكون فيه معيارية
قيمية، وتصريحٌ من لدنه تعالى بأهمية مكة المكرمة، وفاتحها الأول نبينا محمد’، وفاتحها
الأخير الإمام المهدي×، فالوالد محمد’ هو الخاتم لما سبق والفاتح لما أُسُقبِل، والفتح
لمكة مستقبلا سيكون على يد الإمام المهدي×. {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}، هذه الآية
فيها موضع إعجاب سجّله الله تعالى في صفحات القرآن الكريم، بشخص محمد النبي’ وولده
من المعصومين^، الحسين والتسعة من ذريته.
ولكن المفسرين اختلفوا اختلافا واسعاً في المقصود من {وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ}، فبعضهم ذهب إلى أنّ المقصود بوالد وما ولد هو آدم× وذريته، وآخرون
قالوا إنّ المقصود هو إبراهيم× وولدِه... وهلمّ جرا. فكلٌ من أبناء العامة يدلو
بدلوه؛ لغرض إبعاد النبي محمد’ وذريته عن مراد النص القرآني، وبحسب تتبعي
بالتفسير، وجدتُ أن الأئمة المعصومين^ وأصحابهم يصرّحون بأنّ تفسير {وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ}، هو النبي محمد’، وولده من الزهراء÷، وأعني الحسين× وذريته التسعة المعصومين،
وبخاصة الإمام المهدي×. وهذا الرأي من أئمة أهل البيت^ في مقصود هذه الآية
ومعناها، هو الأنسب بيانيا ومفاديا وسياقيا، في منظومة القرآن الكريم التأسيسية، إذ
أنّ سبب نزول السورة (سورة البلد)، هو تطمينُ الرسول’ وتسليته لفراقه مكةَ موطنَه
الأصيل، وموطن بيت الله الحرام، ووعده تعالى له بحقيقة فتح مكة المكرمة مستقبلا.
ويدعم هذا الفهم التفسيري نزولُ السورة في المدينة، هذا من جهة ومن جهة أخرى نسأل ما علاقة آدم×، أو إبراهيم× في السياق القرآني على تفسير الآخرين بالوعد للنبي محمد بفتح مكة؟ والمعروف أنّ القرآن الكريم فيه من الوحدة الموضوعية ما لا تخفى على اللبيب، والمعروف أيضا أنّ الحسين× ولِد في المدينة، ولا عجب من الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم، الذي ذكر أسماء الطيور، فلماذا نستكثر ذكره للحسين× بالكناية، وهو الأشرف وجودا بعد رسول الله’ وأبيه وأمه وأخيه^.
ويدعم هذا الفهم التفسيري نزولُ السورة في المدينة، هذا من جهة ومن جهة أخرى نسأل ما علاقة آدم×، أو إبراهيم× في السياق القرآني على تفسير الآخرين بالوعد للنبي محمد بفتح مكة؟ والمعروف أنّ القرآن الكريم فيه من الوحدة الموضوعية ما لا تخفى على اللبيب، والمعروف أيضا أنّ الحسين× ولِد في المدينة، ولا عجب من الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم، الذي ذكر أسماء الطيور، فلماذا نستكثر ذكره للحسين× بالكناية، وهو الأشرف وجودا بعد رسول الله’ وأبيه وأمه وأخيه^.
وإليك عزيزي المؤمن النصوصَ الصحيحة والموثوقة، التي تدعم تفسير
الآية {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}، بالنبي محمد’ وذريته من الحسين×.
ففي هذا الشأن:
1- قال أصحاب الأئمة المعصومين^: >هو أمير المؤمنين وما
ولدَ من الأئمة^<.([11])
وأمير المؤمنين علي هو نفسُ محمد’، بنص القرآن الكريم{وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] ولا غائلة في اختلاف التطبيق للمدلول من{وَوَالِدٍ}.
2- قال أمير المؤمنين علي× أيضا: >يا سليم، إن أوصيائي
أحد عشر رجلا من ولدي، أئمة هداة مهديون كلهم محدثون. قلت: يا أمير المؤمنين، ومن
هم؟ قال: ابني هذا الحسن، ثم ابني هذا الحسين، ثم ابني هذا - وأخذ بيد ابن ابنه
علي بن الحسين وهو رضيع- ثم ثمانية من ولده واحدا بعد واحد، وهم الذين أقسم الله
بهم فقال: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}، فالوالد رسول الله’ وأنا، و{وَمَا وَلَدَ}
يعني هؤلاء الأحد عشر وصيا صلوات الله عليهم. قلت: يا أمير المؤمنين، فيجتمع
إمامان؟ قال: نعم، إلا أن واحدا صامت لا ينطق حتى يهلك الأول<.([12])
3- فقال×: >{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}، أما الوالد فرسول
الله’، و{وَمَا وَلَدَ} يعني هؤلاء الأوصياء. فقلت: يا أمير المؤمنين أيجتمع
إمامان؟ فقال: لا إلا وأحدهما مصمت لا ينطق حتى يمضي<.([13])
4- وقال النبي محمد’: [>أنا وعلي الوالدان<، وروي عن
بعض الأئمة^ في قوله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك} [لقمان: 14] انه نزل
فيهما<، وقال النبي’: >أنا وعلي أبوا هذه الأمة، أنا وعلي موليا هذه الأمة<،
وعن بعض الأئمة^: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ
* وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 1- 3]، قال أمير المؤمنين×: >وما ولد من
الأئمة<].([14])
وعلى أساس من الذي تقدم، ينبغي الربط والتشريك الغرضي
والغائي بين ولادة الإمام الحسين× وولادة الإمام المهدي×، وحتمية ظهوره الشريف
وإكماله للشوط الأخير في حركة منهج محمد وآله^، ذلك بإقامة عدل الله تعالى وقسطه
في أرضه.
الفصل
الأول
1- البنى
والمرتكزات الشرعيّة لنهضة الإمام الحسين× ضد طاغية وقته
من المعلوم عُرفاً أنه يجب أن يكون كل إنسان ثائرٍ أو مصلح،
مُمتلكاً للمشروعية والرسمية في حركته الإصلاحية والتغييرية في مجتمعه، ونحن لا
نشك قطعاً بل نجزم يقيناً، أنّ الإمام الحسين× يمتلك المشروعية والحقانية في تصويب
نهضته الشريفة ضد طاغية وقته، والدليل على ذلك معيارية العصمة وملاكيتها، والتي هي
ثابتة نصاً وعقلا لشخص الحسين×، وتجعله لا يتحرك إلاّ عن معرفة ووعي وحقٍ
ومشروعية.
وحتى لا نُطيل الكلام، فمن الممكن تبويب بُنى نهضة الحسين× وارتكازاتها،
إجمالاً بعدة نقاط مركزية بارزة في صفحات التاريخ، وهي ما يأتي:
1- إنّ الإمام الحسين× إمام معصوم ومنصوب إلهيا ونبويا،
ومنصوصٌ على إمامته الحقة قرآنيا، ذلك لمشموليته بالآيتين الكريمتين {إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، ولا خلاف في ذلك قطعا. ويُمكن بنظرة واعية فاحصة لنص
من لسان النبي المعصوم محمد’، أن ينكشف المُرتَكَز والمُستَنَد الأصيل لنهضة الحسين×.
والنصُ هو قوله’: >الحسنُ والحسين إمامان قاما أو قعدا<،
وهذا الحديثُ صحيحٌ مشهورُ ذكرته أغلب مصادر الحديث الأولى.([15]) فالحديثُ هذا صريحٌ في
إمامة الحسن والحسين‘ في كلا الحالين
التصدي، أو القعود القهري عن القيام بإدارة أمر الأمة وتدبيرها شرعيا. فالإمامة
الحقة مُنحفِظةٌ للحسين× في كلتا الصورتين
أعلاه، ولكن ما نُريدُ أن نُبينه هو أنّ هذا المرتكز المتين للحسين×، حفظ له حقه
طيلة فترة إبعاده عن تسلم إدارة الأمة وتدبيرها، بعد شهادة أخيه الإمام الحسن×
مسموما من قبل زوجته (جعدة بنت الأشعث)،([16])
وبتدبير من معاوية الغادر، فمعاوية هذا قد غدر بشخص الحسن× حينما دبّر أمر اغتياله،
كما غدر من قبل ذلك بنكثه نصوص الإتفاق مع الحسن×.
إنّ معاوية بعد اغتياله الإمامَ الحسن×، بدأ يعمل على تثبيت
الأمر من بعده لولده الفاسق يزيد اللعين, وفعلا تحركت السلطة الأموية علنا لنقل البيعة له بعد وفاة أبيه،
ولاح في الأفق القريب علامات ذلك للإمام الحسين×؛ مما أعطاه الدافع الشرعي والحقوقي
لضرورة رصد الوضع العام للمسلمين ومستقبلهم،([17])
وطرح المعالجات الجادة لذلك، حتى لو تطلّب الحل بذلَ النفس والأهل في سبيل الحق
والمبدأ المقدّس.
وعلى هذا الأساس والمُرتَكز الشرعي تحرّك الإمام الحسين×؛
لإحداث التغيير ومواجهة الانحراف الديني والدنيوي في حياة المسلمين، وقطعِ الطريق أمام
الظالمين في استعباد الأمة. والصحيح أنّ الإمام الحسين× في النهاية قد قُتِلَ ظلما
وعدوانا، ولكنه حقيقةً حقق أهدافه المعنوية وغاياته القيمية في الحياة الدنيا
والآخرة.
2- بعد وفاة معاوية عام 60هـ للهجرة، أرسل يزيد رسالة إلى
حاكم المدينة الأموي، يُخبره فيها بموت معاوية ويطلب منه أخذ البيعة له من الناس.([18])
وكان أن استوسقت الأمور واتسقت ليزيد اللعين وحكومته المنحرفة في الشام، بقرار أخذ
البيعة من الإمام الحسين× في المدينة، أخذا شديدا لا تساهل فيه, حيث جاء في رسالة
يزيد الخاصة إلى حاكم المدينة (الوليد بن عتبة بن أبي سفيان)([19]):
>خُذ الحسين أخذا شديدا<.([20])
فطلب يزيد البيعة له، من شخص معصوم وإمام منصوب من قبل الله
تعالى مثل الحسين×، جعل الحال أكثر خطورة وتعقيدا لا سيما أنّ يزيدا بلغ من
الإنحراف درجةً لا تُطاق في تحملها أبدا.
حيثُ ينقل التأريخ لنا صورا فظيعة وصل لها حال الحاكم في
المسلمين وبخاصة حال يزيد، >الذي كان يُلبس القرد الألبسة الحريرية الفاخرة
والجميلة، ويجلسه كثيرا إلى جانبه أكثر مما يُجلس رجال الدولة والجيش<.([21])
حتى قال الإمام الحسين× فيه: >وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليَت الأمة براعٍ
مثل يزيد<.([22])
وإذا كان الحال كذلك، فمن الطبيعي أن يمتنع الإمام الحسين× عن البيعة ليزيد
المنحرف سلوكيا. فهنا وضع يزيد علنا الإمام الحسين× في مواجهة الموقف مباشرةً،
فكان جواب الإمام الحسين× وباختصار واعٍ: >ومثلي لا يُبايع مثله<.
إنّ المائز التشريعي والشخصي والقيمي للحسين×، يجعله من
المُحال أن يُبايع شخصا فاسقا ظالما طاغية مثل يزيد؛ فلا يُمكن للحسين× المعصوم أن
يقُرّ بسلطة فاسدة وضالة دينيا ورسمياً. فمقولة الحسين× هذه: >ومثلي لا يُبايع
مثله< تستبطن في ذاتيتها كلّ الإرتكازات الحقة في لزوم رفض الظلم والطغيان
البشري من أيّ كان, وما هذا الرفض إلاّ وظيفة شرعية يُمارسها المعصوم× إماماً
يُقتدى به حياتيا.
3- كانت مخاطبات أهل الكوفة في العراق آنذاك، المُطالِبَة
بضرورة قدوم الإمام الحسين× إلى العراق، على أساس من أنّ الكوفة بلدةٌ جاهزةٌ
للنهضة والتغيير ضد حكم بني أمية, وعلى الرغم من علم الإمام الحسين× بحقيقة الموقف
في ذلك الوقت، لكنه× لم يرفض خطابات القدوم إلى الكوفة، ولم يُعطِهم المسوغ لترك
الحركة ضد الأمويين، بل استمر× في تحركه التغييري متجها صوب العراق مُلقيا الحُجّة
والبينة على كل من يمُرّ به.
وهذا نص مخاطبة أهل الكوفة: [>ولما بلغ أهلَ الكوفة هلاكُ
معاوية فأرجفوا([23])
بيزيد، وعرفوا خبر الحسين× وامتناعه من بيعته، وما كان من ابن الزبير في ذلك، وخروجهما
إلى مكة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد،([24])
فذكروا هلاك معاوية فحمدوا الله عليه، فقال سليمان: >إن معاوية قد هلك، وإن حسينا
قد تقبض([25])
على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم
ناصروه ومجاهدو عدوه فأعلموه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه<.
قالوا: >لا، بل نقاتل عدوه، ونقتل أنفسنا دونه< فكتبوا: >بسم الله الرحمن
الرحيم، للحسين بن علي‘ من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب
بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى([26])
على هذه الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثم قتل خيارها
واستبقى شرارها، وجعل مال الله دُولة بين جبابرتها وأغنيائها؛ فبعدا له كما بعدت ثمود.
إنه ليس علينا إمام،([27])
فأقبِل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق؟ والنعمان بن بشير([28])
في قصر الإمارة، لسنا نجمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك أقبلت
إلينا أخرجناه، حتى نلحقه بالشام إن شاء الله<.
ثم سرحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمداني وعبد الله ابن
وال، وأمروهما بالنجاء([29])
فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين× بمكة، لعشر مضين من شهر رمضان. ولبث أهل الكوفة
يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد الله
الأرحبي، وعمارة بن عبد السلولي إلى الحسين×، ومعهم نحوٌ من مئة وخمسين صحيفة من الرجل
والاثنين والأربعة.
ثم لبثوا يومين آخرين، وسرحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد
بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إليه: >بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته
من المؤمنين والمسلمين، أما بعد فحيّ هلا،([30])
فإن الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ، ثم العجل العجل، والسلام<.
وكتب شبث بن ربع([31])
وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد
بن عمرو التيمي: >أما بعد: فقد اخضرّ الجناب([32])
وأينعت الثمار، فإذا شئتَ على جندٍ لك مجنّد، والسلام<. وتلاقت الرسل كلها عنده،
فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن الناس، ثم كتب مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله، وكانا
آخر الرسل: >بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى الملأ من المسلمين والمؤمنين.
أما بعد: فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت
كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم، أنه ليس علينا إمام فأقبِل، لعل الله أن يجمعنا
بك على الهدى والحق. وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقثي من أهل بيتي، فإن كتبَ إلي
أنه قد اجتمع رأي مَلئكم([33])
وذوي الحِجا([34])
والفضل منكم على مثل ما قدمِت به رسلُكم وقرأت في كتبكم، أقدِم عليكم وشيكا إن شاء
الله. فلعمري ما الإمام إلا الحكم بالكتاب،([35])
القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام<. ودعا الحسين
بن علي‘ مسلمَ بن عقيل بن أبي طالب× فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبد
السلولي، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن
رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك. وكتب إليه×: > السلام، أما بعد فامضِ
لوجهك الذي وجهّتك<. فوصل مسلم الكوفة.
وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ
عليهم كتاب الحسين بن علي‘ وهم يبكون، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا؛
فكتب مسلم رحمه الله إلى الحسين×، يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا ويأمره بالقدوم. وجعلت
الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل رضي الله عنه حتى عُلََِمَ مكانه<].([36])
فهذه المُخاطبات بين أهل الكوفة آنذاك والإمام الحسين×،
إنما جاءت بعد سماعهم بحركة الإمام الحسين×، ضد يزيد ورفضه علنا البيعةَ له. فحركة
الإمام الحسين× ونهضته، كانت هي السبب في أن يُقدِم أهل الكوفة على مخاطبته للقدوم،
لا أنّ مخاطباتهم كانت هي السبب الرئيس في نهضته. وإنه هو× قد قبلها، من باب كسب
الأنصار والمؤيدين لنهضته على الظالمين.
4- إنّ متغيرات الواقع الإسلامي آنذاك في وقت الحسين×، تطلبت
منه التصدي علنا لمُمارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الفريضة
الواجبة والشرعية التي غيّبتها سلطات ذلك الزمن، ودستها تحت التراب ظلما، فظلت موؤدة
من دون ذنب يُذكر، سوى فسق يزيد وزمرته التي غيّرت أحكام الله وعاثت في بلاد
المسلمين وعقولهم فسادا.
ومن أجل معالجة التغيّر السريع الذي حلّ بالأمة رفع الحسين×
نص رسول الله’ القائل: >من رأى منكم سلطاناً جائرا، مُستحلاً لحرام الله ناكثا
عهده، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه
بفعل أو قول، كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله<.([37])
فهذا النص الشريف منح نهضة الحسين× قيمة عالية في حركتها ضد
الظالمين، إذ أنّ الإمام الحسين× ركّز على وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
أكثر بكثير من غيرها كالبيعة له، أو مخاطبات أهل الكوفة إليه×. فالفساد في أيام
بني أمية قد عمّ البلاد، وحلال الله صار حراما وحرامه صار حلالا، فتبددت أموال
المسلمين وصُرِفَت في غير رضا الله تعالى.
والإمام الحسين× في خطابه هذا، صرّح واضحاً بأنّ نهضته
وحركته الشريفة تستهدف السلطان الجائر، حتى ولو لم تُطالبه سلطة بني أمية بمبايعة
يزيد؛ لأنّ الإمام الحسين× يعلم جيدا من أول الأمر عدم مشروعية شخص يزيد ونظامه في
إدارة أمور المسلمين. فوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن تسمح للإمام
الحسين×، بالسكوت أو القبول بالظلم والفساد. وإنها تمثل مبدأ مركزياً في صيانة
النظام الإسلامي ومتبنياته شرعيا وأخلاقيا واجتماعيا. والقرآن الكريم أكد بشكل
كبير تفعيلَ وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورها المتعددة، حيث قال
تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[آل عمران: 104]، وهذه الأمة -أي الجماعة التي كلّفها الله تعالى بالدعوة إلى
الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أُختُزِلَت في شخصية الإمام الحسين× في
يومها، في وقت تقاعس المسلمون عن وظيفتهم الشرعية هذه.
فجاءت نهضة الحسين× مُلبيةً لنداء ربها سبحانه وتعالى، في
طلب التغيير والإصلاح، والدعوة إلى الخير، والقضاء على الظلم والفساد البشري.
ومعلوم للجميع أنّّ الله تعالى لا يُغير ما بقوم حتى
يُغيروا ما بأنفسهم، طبقا لقانون الله تعالى في قوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}
[الرعد: 11]، فمن هنا انبرى الإمام الحسين× في إحداث التغيير سريعاً في أوساط
المسلمين؛ لكي يحافظ على ما تبقى من قيم الإسلام وشرعه، قبل أن يتم استئصالها بيد
نظام يزيد.
2- حفظ
الشريعة الإسلامية وعقديّاتها مسؤولية إلهية يتحملها الإمام المعصوم×
في البداية لا بد من توضيح صور الإنحراف الأموي عن الشريعة الإسلامية
علنا، حتى ندرك عمق المسؤولية التي وقعت على عاتق الحسين× في وقته. فالمُلاحظ
تأريخيا هو الآتي:
1- تتويج معاوية رسميا لولده (يزيد) الفسقِ والفجور ملكاً
على رقاب المسلمين، وبقوة السيف والظلم. هذا الفعل السيّئ جعل الإمام الحسين×
يُفكر في خياره الأخير والسديد، وهو تبنّي سياسة الرفض القاطع للواقع الفاسد
آنذاك. وفي مطالعة تاريخية سريعة، تنكشف لك الحقيقة المؤلمة، فهذا التأريخ الشهير
يؤكد أنّ يزيدا فاسق ومنحرف، وكان يُمارس الفجور علناً، على مسمع ومرأى من
المسلمين وغيرهم، وأذكر لكم ما ذكره المؤرخ البلاذري:>كان ليزيد قرد يجعله بين
يديه ويُسميه أبا قيس، وكان يسقيه النبيذ ويضحك مما يصنع، وكان يحمله على أتان (أنثى
الحمار) وخشبة ويرسلها مع الخيل<،([38])
وروى المؤرخ ابن كثير: >أنّ يزيداً كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغناء
والصيد واتخاذ الغلمان... وكان إذا مات القرد حزن عليه، وحتى أنه قيل أنّ سبب موت
يزيد، أنه حمل قردة وجعل يُرقصها فعضته<.([39])
وإذا كان هذا حال الخليفة المزعوم، فما بالك بحال الآخرين
ممن معه؟ والمصيبة الأخرى أنّ هذا الحال الفاسد وصل إلى مكة والمدينة، فقد ذكر
المسعودي: >وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر
الغناء بمكة والمدينة، وأُستُعمِلَت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب<.([40])
فلعمري ماذا تتوقع من الإمام المعصوم الحسين× أن يصنع تجاه
ذلك، ولو بالحد الأدنى الممكن عقلا وشرعا وعرفا. إنّ الإمام الحسين× بحركته ونهضته،
رفض هذه الصورة المنحرفة أخلاقيا، وسلب منها رسميتها، وكشف للتأريخ والبشرية
الواقع المزيف، وأبقى للأمة الواعية الصفحة النقية من صفحات الرسالة المحمدية
الأصيلة، فلذا كانت ضرورة حفظ الشريعة وعقدياتها حاضرة قويةً في ذهن الإمام
الحسين×، والوفاء بالتزاماته× تجاه شريعة الله تعالى، كانت تفرض عليه سلوك منهج
التغيير والإصلاح ولا سبيل سواه.
وعندما كتب يزيد اللعين إلى واليه على المدينة (الوليد بن
عتبة)، أن يأخذ البيعة من أهل المدينة عامةً ومن الحسين× خاصةً، رفض الإمام
الحسين× ذلك بقوة. وقد أوضح الإمام الحسين× ذلك الرفض لبيعة يزيد قائلاً لوالي
المدينة (الوليد بن عتبه): >ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة
مُعلِن بالفسق ومثلي لا يُبايع مثله<،([41])
فالإمام الحسين× أراد بقوله هذا، التأسيسَ علنا وصراحة لمنهج اختيار الحاكم
ومواصفاته، فذكر× رذائل يزيد حتى يَعرِف الناس بأنه هكذا مواصفات لا تُصحّح ولا تُشرعِن
ولا تُرسمِن حكمَ المُتَصف بها كيزيد.
وفي الوقت نفسه وفي المقابل، بيّن الإمام الحسين× المواصفات
الشرعية والحقيقة للحاكم المُسلم، والصالح لقيادة المسلمين وتدبير أمورهم الدينية
والدنيوية، والذي تجبُ طاعته، ذلك في رسالة أرسلها× إلى أهل الكوفة، قائلاً: >فلَعمري
ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على
ذات الله<.([42])
وهنا يجبُ الوقوف المعرفي والمُتفحِص؛ للتأسيس على ما بيّنه الإمام الحسين× من
مواصفات صالحة وحكيمة لشخص الحاكم أو دولته عامةً.
فالاستناد في حكم الأمة إلى دستور سديد، مثل كتاب الله
العزيز (القرآن الكريم)، يعطي للحاكم نفسه ودولته مشروعية ورسمية، في تدبير أمور
المسلمين وإدارتها دينيا ودنيويا، فضلا عن منحهم الثقة بالدين والمنهج القرآني إن
تم الإعتماد عليه عمليا وتنظيريا. وإنّ ّ تأكيد الإمام الحسين× مفردةَ >القائم
بالقسط<، لهو أمرٌ في الغاية من الأهمية والحكمة، في تأسيس الدولة وبسط نفوذها
على المسلمين، والأمر الأهم من ذلك، هو أن يكون دين الحاكم دين الحق لا الباطل،
وأن يعمل لله تعالى لا أن يؤسس لذاته ولشهواته الدنيوية، وتاركاً مصالح المسلمين وصلاحهم
خلف ذاته.
والقارىء اللبيب في قراءته لهذا النص، يُذعن لحقانية الإمام
الحسين× ومشروعيته، ومدى التزامه بضرورة توفر الأهلية والشرعية في شخص الحاكم
للمسلمين، وعدم السماح للظالمين بالتسلط على رقابهم. فالعمل والحكم بكتاب الله
تعالى واجب شرعي،([43])
واتباع منهج العدل والقسط في التعاطي مع أمور المسلمين وتدبيرهم، هو مطلبٌ عقلاني
وقرآني مركزي وحيوي. إنّ كلّ تلك المُرتكزات الشرعية والعقلانية، من ضرورة الحفاظ
على العمل بكتاب الله، والسير على منهج العدل والمساواة بين الناس وعدم ظلمهم؛
جعلت الحسين× يتحرك سريعا لمعالجة الموقف.
فإصراره× على رفض بيعة يزيد بقوة؛ هو لأجل عدم إعطائه الصفة
الشرعية والقانونية في حكمه للمسلمين؛ ولذا أبلغ× واليَ المدينة (الوليد بن عتبة):
قائلاً له بصورة نهائية: >أيها الأميرُ، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة
ومختلف الملائكة، بنا فتح الله -أي فتح نبوة محمد’ وإمامة علي× وبنيه المعصومين-
وبنا ختَم -أي بإمامة المهدي× خاتم الأئمة المعصومين^- ويزيد الفاسق فاجرٌ، شارب
الخمر قاتل النفس المحترمة، مُعلِنٌ بالفسق والفجور؛ ومثلي لا يُبايع مثله<.([44])
2- إنّ نظام يزيد عمل على تصفية خصومه، من الرافضين لحكمه
الباطل، من أتباع أهل البيت^ تصفية جسدية علنية. فقد كتب يزيد إلى عماله في جميع
البلاد: >مَن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم -يقصد أهل البيت^- فنكّلوا به واهدموا
داره<.([45])
وقد صوّر الإمام محمد الباقر×، تلك المأساة الدامية بأقصر
عبارة وأدقها، حين قال×: >فقُتِلَت شيعتنا بكل بلدة، وقُطِّعَت الأيدي والأرجل
على الظنّة،([46])
وكان من يُذكَر بحبنا والانقطاع إلينا سُجِن أو نُهِبَ ماله أو هُدِمَت داره، ثم لم
يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين×<.([47])
وهذا النص جليٌ وواضح في فداحة الحال الذي كانت عليه الأمة في وقت يزيد، وهل يمكن
السكوت على مثل هكذا ظلم، وبخاصة أن الحسين الأبي× موجود! كلاّ وألف كلاّ, فهذا ما
يرفضه الحسين× مهما كلفه الأمر.
3- إنّ يزيد اللعين قد طبَّقَ وصيّة أبيه معاوية الماكر
حرفياً، حينما كتب إلى عماله في جميع الأمصار: >أنظروا من قامت عليه البيّنة([48])
أنه يُحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان وأسقِطوا عطاءه ورزقه<.([49])
وهذا النصُ يكشفُ بدقة، عن عمق المأساة الإقتصادية والفكرية التي مرَّت على الأمة،
بحيث يصل الحال إلى قطع العطاء (الراتب) والرزق عن المؤمنين من أتباع أهل البيت^.
3- العودة
بالمجتمع الإنساني إلى منهج الحق القويم مَطلبُ المعصوم^
إنّ إصلاح المجتمع الإنساني عامة، هو هدف كان كل الأنبياء
والأئمة المعصومين^، ينشدونه ويسعون لتحقيقه قدر المُستطاع، فمقولة الإصلاح هي
مقولة قرآنية ونبوية في الوقت نفسه، وكثيراً ما رددها القرآن الكريم في نصوصه
الشريفة.
فالإمام الحسين× تحرك مُصلحا وحاملا لشعار الأنبياء الذي
ينصُ على قوله تعالى {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا
تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]،
وعند قراءة الحوارية التي دارت بين الحسين× وأخيه (محمد بن الحنفية)، والتي ركّز فيها
الحسين على ضرورة الإصلاح وتطبيقه ميدانيا حينما قال×: >وأني لم أخرج أشِرا ولا
بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي’، أريد أن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب×، فمن قبلني
بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم
بالحق، وهو خير الحاكمين<.([50])
وفي هذا النص الوثائقي من لدن الحسين×، يظهر للقارىء الواعي
معيارية النهضة الحسينية الشريفة وقيميتها، والتي تقوّمت بمقولة إصلاح الأمة
وتقويمها بعد الإعوجاج الذي حصل في وقت حكم الأمويين. وهذه المعيارية القيمية في
حركة الحسين× المجتمعية، تعنونت بعنوان قبول الحق وملاكه، والذي هو محور مقدّس
يجمع حوله كل مقولات الله تعالى وغاياته، في تعاطيه مع عباده في هذه الحياة
الدنيا. وهذا الملاك >القبول بقبول الحق< يَفتحُ تأسيساً جديدا وأصيلاً
قيمياً، لم يكن معهودا عند الأنظمة الطاغية في وقت نهضة الحسين×؛ فلذا رسّخه
الحسين× في حركته؛ ترسيخاً ودعماً لمقولة أبيه الإمام علي×، >وإن الحق والباطل
لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه<.([51])
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ ملاكيّة >القبول بقبول
الحق< ومعياريّتها تُبعِد الإنسان المُصلِح عن ذاتياته البشرية منها منزلته
ودرجته الخاصة حياتيا؛ لذا نجدُ أن الحسين× كان مُلتفتاً التفاتا سديدا وواعيا،
لما يؤسس نظريا وتطبيقيا لمشروع التغيير، ولأجل قطع الطريق أمام خصومه من اتهامه
بالتأسيس لشخصه وذاته، حيثُ أنه×، >لم يقُل فمن قبلني لشرفي ومنزلتي في
المسلمين، وقرابتي من رسول الله’، وما إلى ذلك... لم يقُل شيئا من هذا، إنّ قبوله
يجب أن يكون عنده× بقبول الحق، فهذا داعٍ من دعاته، وحين يقبلُ الناس داعي الحق
فإنما يقبلونه لما يحمله إليهم من الحق والخير لا لنفسه<.([52])
إن ّالعودةَ القيميّةَ والمنهجية الواعية بالمجتمع إلى بقعة
العدالة وتطبيقاتها، تتطلب الإيثار والتضحيّة وإفناء الذات الداعية إلى التغيير؛
حتى تكون العودة عودة قوية، تكتسبُ في ذاتياتها قبساً من قداسة الإنسان المُضحي وشرافته
ومنهجه القويم. فهكذا هو حال الحسين×، قد عاد بذاته إلى ربه شهيدا حتى يعود بشهادته
على المجتمع عودا جديدا.
إنّ الإمام الحسين× في عودته وحركته الشريفة هذه، كان يعمل على
وفق قاعدة عرفانيّة راقية، تنص على أنّ كل شيءٍ يفنى من أجل شيءٍ آخر، فإنه يكتسب
قيمة بنفس تلك النسبة الفنائية، يعني أنّ عينه وذاته الشريفة ستفنى في حال شهادته×،
وفي الوقت نفسه يُولدُ ويوجد بلحاظ ولادة القيم الجديدة التي أسسها×، فشهادة
الحسين× هي وجود جديد في فناء شريف ومقدّس، وفناء لوجود يعقبه بقاءً للقيمة
وثبوتاً واقعيّا للفكرة، كبقاء الإنعتاق من ربقة الطاغوت وبقاء العدالة والإحسان
في المجتمع.([53])
هكذا كان يفعل الحسين× ويصنع في عودته بالمجتمع إلى الحق
وساحته ومنهاجه، إنّ الإمام الحسين× منح وجوده الشريف بالكامل، منحا إراديا واختياريا
لله تعالى ولنظام الحق في البشرية، في عملية واحدة وسريعة من أجل وقاء شريعة الإسلام
الأصيل وعقدياته الحقة. ومن الطبيعي أن تسري قُدسيّة الله تعالى الذي هو أولى
بالحق،([54])
إلى كيانية الحسين×، فهو× بصنعه هذا، ما عادَ فردا واحدا، بل تحول إلى فكر مقدّس
سرى مفعوله في مديات الزمان والحياة والمجتمع بصورة جليّة، جعلت منه× مُحرّكاً
قيميّاً في الميدان، وجوديا وباعثاً إلى النهوض بالحق وأهل الحق، وصيّرت الشهادة
الحسينية الشريفة الإمام الحسين× مُعادلاً بل ما يفوق المُعادل القيمي([55])
لمفاهيم الحق والعدالة والإصلاح المجتمعية.
الفصل
الثاني
1- إستنطاق
ذاتي تحليلي لمقتطفات من نصوص النهضة الحسينية الشريفة
للإختصار المفيد والمُثمِر، نقفُ متأملين في نصٍ شهير من
نصوص الحسين× في نهضته الشريفة، وهذا النصُ هو قوله×: >ألا وإنّ الدعيَّ بن
الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا
ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحُجُور طهُرت، وأنوفٌ حميّة ونفوس أبية، لا تؤثِر
طاعة اللئام على مصارع الكرام... ألا وإني قد أعذرت وأنذرت، ألا وإني زاحفٌ بهذه
الأسرة مع قلة العدد وكثرة العدو وخذلان الناصر<.([56])
هذا النصُ واضح وجلي، وفي متنه دلالات ومقولات مهمة جدا،
ومحددات حتمية ترسم طريق الحق لأهله، رسماً مشروعا ومُحقا، ويبدو من هذا النص أنّ
الحسين× قد انتهى أمر حركته الشريفة إلى أمرين، إما الجهاد والمواجهة المسلحة (السِلّة)
أي النهوض بالسيف ميدانياً، أو الذلّة أي القبول بالأمر الواقع الفاسد، وهذا منطق
لا يقبله المعصوم مطلقا مثل الحسين×، فضلاً عن عدم قبول الله تعالى ورسوله’ وآل
بيته المعصومين لذلك الخيار المُذِل؛ ولذلك جاء اختيار الحسين× لخيار المواجهة
المباشرة، عن إرادة واعية وقوية ومقبولة عند الله تعالى ورسوله وأهل بيته^، وبخاصة
أنّ خيار الحسين الشريف هذا، أفصح عن ضرورة الزحف إلى الله تعالى على الرغم من >قلة
العدد وكثرة العدو وخذلان الناصر<.
وهذه المفردات الثلاث الأخيرة في نص الحسين×، وهي (قلة
العدد، كثرة العدو، خذلان الناصر)، تعطي صورة بيّنة عن مدى وعي الحسين× لما يجري
من حوله، وتكشف عن التفاته× إلى أنّ المعادلة المادية بينه وبين أعداء الله وأعدائه
غير متساوية الأطراف، ولكن الغاية مقدّسة وتستلزم التحرك السريع ولو على أسوأ الإحتمالات.
فالتحرك بقلة العدد وكثرة العدو وخذلان الناصر يبدو للناظر لأول
وهلة، بأنه حركة غير طبيعية وغير عقلانية، فمن العجيب أن يقوم الإمام الحسين× بهذا
العمل! إلاّ أنّ القراءة الفاحصة والذاتية تُبيّن أن نظرَ الإمام الحسين×، كان مُرَكّزاً
على أمر أعمق من الظاهر المحسوس للعيان وأدق هدفا، فخروجه× بهذه الطريقة غير الطبيعية
في حساب الماديين، أراد به أن يكون× مصداقاً للمعصوم الشاهد على الناس وعلى موقفهم
تجاهه، قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:
143]، وطبقاً للفهم القرآني الحق والمؤسس؛ فإنّ المعصوم هو الشاهد الإلهي على
الناس، ومن المعصومين الحسين×، فمِن هنا كان الحسين×، هو نفس رسول الله’، على وفق
الحديث الصحيح والمشهور روائياً >حسينٌ مني وأنا من حُسين<.([57])
وفي هذا الحديث الشريف من لسان النبي الأكرم محمد’، يتلاحم الفهم
والتأسيس معا، قرآنيا ونبوياً لبيان منزلة الحسين’ ودوره الوجودي في هذه الحياة. وحتى
يكتمل الفهم الدلالي للحديث، نُشير أولاً إلى ضرورة التيقن بصدوره عن النبي محمد’،
وللأمانة أنّ نقول أن هذا الحديث ذكره روائيا المؤالف والمخالف، وننقله عن أحمد بن
حنبل إمام الحنابلة، الذي ذكره في كتابه (فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×)، قال
رسول الله’: >حُسينٌ مني وأنا من حُسين، اللهم أحبَّ من أحبَّ حُسينا، حُسينٌ
سبط من الأسباط<.([58])
إنّ دلالة >حسين منّي< واضحة المعنى؛ باعتبار أنّ الحسين×
هو سبط النبي محمد’ وابن ابنته الزهراء÷ المعصومة، هذا بحسب الظاهر، أما تأويلا
فقد يكون الرسول’ يقصد بضرورة وجود الحسين× في واقع الإسلام، وجودا مشروعا ونائبا
عن شخص رسول الله’ في هذه الحياة.([59])
وأمّا مقطع >أنا من حُسين< فهذا تعبير عميق الدلالة
والمفهوم والمصداق حقيقةً، ولسائل أن يسأل ما معنى ذلك؟ وكيف يكون الخاتم محمد’ >من
حسين<! وهنا قطعا لا يقصد الرسول’ الأنا الشخصانية التناسخية؛ لفارق النبوة
الخاتمة عن الإمامة المفتوحة بجعل رباني، فنبوة محمد’ ختمتْ ما سبق، وإمامة الأئمة
الإثني عشر فاتحةٌ لما أُستُقبِل.([60])
ولكن -والله تعالى العالم- قد يقصد النبي الخاتم المعصوم
محمد’, بقوله >أنا من حُسين<، هذا بقاء الأنا المحمدية الكلية القيمية
والمنهجية في شخص الحسين×، والتي ستعود بالمجتمع من بعده’ إلى المنهج الحق
والقويم. ومن الممكن أن يكون المقصود، هو مساوقة شخص الإمام الحسين× ومعادلتها
لمنهج النبي محمد’، والذي سيبقى ممتداً بوجود الأئمة المعصومين^ من ذرية الحسين×.
وبعبارة أوضح، أنّ الإسلام كان محمدي الوجود والتأسيس،
وسيبقى حسيني البقاء والمنهج. واستنادا لهذا الأساس القيمي والشرعي، إنطلق الإمام
الحسين× في مواجهته وحركته الإصلاحية التغييرية حقاً، برامزيته المحمدية وشاهديته
الإمامية حجةً على الناس أجمعين، فكان× بحق شاهدا معصوما، ومناظراً في وقته
لشاهدية النبي محمد’ على العالمين.
2- قَتلُ
الإمام الحسين× وحتميات الواقع الموضوعي آنذاك/ تحليل دلالي
يُمكن فهم هذا العنوان بمرور معرفي سريع وواعٍ، على فقرات
من خطابات الإمام الحسين× في نهضته الشريفة. وأهمها ما قاله× لابن الزبير حين طلب
منه إعلان الثورة في مكة، وإليك نص ما قاله×: >وأيم الله لو كُنتُ في جحر هامّة([61])
من هذه الهوام، لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم، والله ليُعتدَنّ عليَّ كما اعتدت
اليهود في السبت([62])<،([63])
وقال الحسين× أيضاً: >والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة([64])
من جوفي، فإذا فعلوا سلّطَ الله عليهم من يذلهم، حتى يكونوا أذلَّ من فرام المرأة([65])<.([66])
إذن، هذه النصوص الشريفة من لسان الحسين× تُثبِت حتميَّة
القتل الذي سيواجهه× من أعداء الله تعالى ورسوله وأعدائه. ولكن هذه الحتمية لا تُنافي
إرادة الحسين× في اختياره الواعي والسديد للشهادة، وإدراكه لخطر المسؤولية. وهو×
كان يُدرِك تماماً أنّ لكل رسالة نهضوية وإصلاحية أساليب في أدائها، فتارة تُؤدّى
بالخطاب وأخرى بالشهادة بعد إتمام الحجة فعلياً. وهذا الإختيار البصير من قبل الحسين×،
مدعومٌ بقوله×: >إني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما<.([67])
فاختياره× الموتَ والشهادة كان تحريكا للساكن، وضخّاً
للحياة في الأمة من جديد،([68])
وكسراً لشوكة الطغاة وسطوتهم على الناس. وإنّ مفهوم النصر والهزيمة عند المعصوم
يختلف جذريا؛ فالمُتَبادَر إلى الذهن البشري أنّ النصر الحقيقي هو الغلبة
العسكرية
لصالح المُنتَصِر، ولكن المعصوم× يرى غير ما نرى؛ فالنصر عنده هو انتصار
القيم
ومعياريتها وقدرة بقائها، ولو على حساب شهادة حاملها، كما فعل الحسين×.
فالحسين× حقيقةً، هو إنسان مُنتَصِرٌ قيميا ومعنويا، ولا
قيمة للغلبة العسكرية عنده، وهو كان يُدرِك ذلك تماماً.
الفصلُ
الثالث
شهادة
الحسين× تستبطن إحياء الأهداف المُقَدَّسة
1- صياغية جديدة لأخلاقيات الحكم والحاكم
من المقطوع به تأريخيا ودينيا، أنّ نظام الحكم الأموي
وحاكمه، هو نظام منحرف عن العقيدة والشريعة الإسلامية، فمِن سفكه للدماء البريئة،
وتزويره للأحاديث الشريفة، وسلبه للحكم الشرعي من آل البيت×، وظلمه المسلمين بسرقة
أموالهم وهدر حقوقهم... والقائمة طويلة في مجال ظلم الأمويين للمسلمين وأئمتهم، حتى
وصل بهم الأمر إلى توظيف الدين رسميا؛ لخدمة نظام حكمهم وسياسته الظالمة.([69])
ففي مثال واحد للتدليل على حقيقة الإنحراف الديني، الذي
مارسه الأمويين في شكل الحاكم وحكمه، نقرأ نصاً لعمرو بن الحجاج الزبيدي، وهو من
قادة الجيش الأموي في كربلاء، حين رأى بعض أفراد جيشه ينسلون إلى الحسين×،
ويُقاتلون دونه صاح قائلاً: >يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا
ترتابوا في قتل من حرَّفَ في الدين وخالف الإمام<.([70])
فقادة الأمويين يُصوّرون للناس الإمام الحسين× مخالفاً لإمامهم يزيد! أنظر كيف انتكست
المفاهيم وقُلَّبَت الأمور([71])
عندهم، فيزيد هو المارقُ حقيقةً عن طاعة الإمام الشرعي الحسين×، وهو شاقّ جماعة
المسلمين؛ فتراهم يُصيّرونه إماما وحارسا للدين، وعلى مثل هذا المنوال فقس ما سواه.
فمن الطبيعي جداً أن تجد أن المجتمع آنذاك في ظل حكم الأمويين،
مجتمعاً لا يتجاوب نفسيا وعقديا مع الإمام الحسين×؛ لأنهم ضلوا الصراط حقيقةً. وفي
مثل هذا الحال الذي لا يتغير، لا بد من تصدي الحسين× بنفسه وموقعه الديني الأصيل
والشرعي، حتى يسحب البساط الديني المزيف من تحت أقدام الأمويين، ولو بقوة الدم.
ولأجل صياغية حقة ومشروعة لأخلاق الحاكم وحكمه؛ أعلن الحسين×
نصه الخالد في تصحيحه للإنحراف المفهومي والمصداقي لشخصية الحاكم والحكم، قائلاً×:
>فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط الداين بدين الحق، الحابس
نفسه على ذات الله<.([72])
2- التأسيس
لظاهرة نقد الذات والمجتمع منهجيا وعقلانياً
إنّ هذه الظاهرة تجلّت واضحةً في نصوص عاشوراء، حيث قال
الإمام الحسين×: >أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم
وعاتبوها، فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي! ألست ابن بنت نبيكم صلى الله
عليه وسلم!<.([73])
إن (نقد الذات) هو مراجعةٌ لقيم الإنسان نفسِه، وتصويبها
وتقويمها وجعلها في المركز من القيم نفسها لا في حرفيتها. وبعبارة أوضح أنّ نقد الإنسان
لذاته، يعني لومها الواعي ومحاولة ضبطها في مسارها، وحركتها تجاه الكمال المعقول
والمقبول وترجمانه في ميدان المجتمع، ولأهمية نقد الذات الإنسانية نجدُ أن القرآن
الكريم أقسم في سورة القيامة {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، والمراد
بالنفس اللوّامة هي نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في طاعة
الله تعالى، فمن هنا يكون مصطلح نقد الذات، هدفا حسينيا وقرآنيا، فهو معادلٌ
ومناظرٌ مفهومي للـ (النفس اللوّامة). فنقد الذات ضروري لأجل صدق التغيير والتأثير
في المجتمع.
وهناك رواية لطيفة بشأن نقد الذات، ذكرها العلامة السيد
الطباطبائي في تفسيره، وإليك نص الرواية: >عن أبي عبد الله الصادق×، قال: ما
ينفع أحدكم أن يُظهِر حسنا ويستر سيئا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك؟ والله
سبحانه، يقول {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]، إنّ
السريرة إذا صلحت قويت العلانية<.([74])
فالإمام الحسين× ماذا كان شعاره المركزي الواضح، أليس >الإصلاح
في أمة جدي<، فالإصلاح يبدأ من الذات وينتهي بالمجتمع، {إِنَّ اللَّهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وهذا
ما كان يهدف إليه الحسين×، إصلاحَ الذات والمجتمع إصلاحا عمليا وفعلياً يُلامس
مفعولُه الواقع.
الإمام
الحسين× يكتب قصته الأخيرة في يوم عاشوراء
ها قد ولَِدَ اليوم العاشر من المحرم الحرام لسنة 61هـ، يوم
الدم والجهاد والشهادة واللقاء والمصير إلى الله تعالى، وها هو اللعين عمر بن سعد
بن أبي وقاص، يعدّ جيشه ويعبّىء قواته لقتال ابن بنت رسول الله’، الحسين×.
بينما نرى الإمام الحسين× قد تأهّب للدفاع المقدس عن شِرعة
الله ورسوله’ وعن نفسه وعياله، فشرع× في تحصين مخيمه الذي يضم أهله وعياله، فأمر× بحفر
خندق يحيط بظهر المخيم، وأضرم فيه النار ليمنع هجوم الأعداء عليه، ثم وقف الحسين×
خطيبا وراح يُذكّر الأعداء بكتاب الله وسنة نبيه’، ويبين لهم أنه× ابن الكتاب
والسنة، ورفع× كتاب الله ونشره على رأسه الشريف، ولكن لم يستجب له أحد من معسكر الأعداء،
بل على العكس فكان عمر بن سعد هو أول من بدأ القتال ضد الحسين×، فرمى أول سهم على
معسكر الحسين×، وقال >إشهدوا لي أني أول من رمى<.
فمن هنا بدأت ملحمة عاشوراء المقدسة، حيث رأينا أنّ معلمها الأول
الحسين×، كيف بثّ دروسه على أصحابه الخلّص ليحفظوها عنه، ولتبقى في ذاكرة التاريخ الإنساني
الحي إلى الأبد. ومن هذه الدروس المقدسة، أنّ الحسين× عندما رأى الجيش الزاحف من
معسكر الأعداء، تأمل به طويلا ولم يزل× كالجبل الشامخ، وهو ابن علي× فقد اطمأنت
نفسه بذكر الله تعالى، وتصاغر جيش الأعداء أمامه فلم يخفْ أبدا.
فهذه مناجاته الملكوتية تدوّي في أسماع الأحرار والعارفين،
عبر أثير العشق والحب الإلهي، فيقول×: >اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي
في كل شدّة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد،
وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلتُه بك وشكوته إليك؛
رغبة منّي إليك عمن سواك، ففرّجته عني، فأنت وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى
كل رغبة<،([75])
وهنا طرح الإمام الحسين× ضرورةَ الارتباط بالله تعالى، من أجل إعلاء كلمة الله
العليا،([76])
فالرجوع إلى الله تعالى أمر لا مفر منه، فلا خيار للإنسان المُمتَحن إلاّ أن يرجع إلى
ربه، بوجه ابيض وقلب سليم ونفس راضية مرضية، مهما كان عظم البلاء والمحنة. وهذا ما
صنعه الحسين× في مفردات دعائه آنفاً، حيث أكّد× الثقةَ العالية بالله تعالى، وأنّ
الفرج الحقيقي من الله تعالى.
إنّ واقعة الطف الأليمة جسّدت حقيقةً مظلومية أهل البيت
المعصومين^ يوم كربلاء، حيث رأى الحسين× صورا مروّعة من المظلومية، التي حلّت به
وبأهل بيته^ وأصحابه، من تساقط الشهداء من الأصحاب(رض)، ومن استشهاد آل عقيل(رض) وآل
علي(رض) في أرض الطف المنكوبة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى استمرار أعداء الحسين× من
معسكر عمر بن سعد الباغي، وإصرارهم على إحراق الخيام الحسينية وإرعاب النساء والأطفال
ومنعهم من شرب الماء، وقتلهم الطفل الرضيع×.
ولكن على الرغم من هذا كله، وقف الحسين× كالطود العظيم لم
يتزعزع، بل راح يجمع الدم بكفيه ويرفعه شاكيا إلى الله سبحانه راميا به نحو السماء
مناجيا ربه، ويقول×: >هوّن عليّ ما نزل بي إنه بعين([77])
الله<،([78])
مقولةٌ مقدسة تكشف عمق الذات الحسينية المتعلقة بالله جل وعلا، والصلبة في امتحانه،
ولم يمض إلاّ وقت يسير حتى قدّمَ الحسين× أخيه العباس بن علي‘، ذلك البطل الوفي
والذي ترك آثاره وبصماته على أرض كربلاء؛ لتبقى شاهدا وموثِقا على الفداء، قدّمه
الحسين× ليحمل الماء إلى القلوب الحرّى والأكباد الملتهبة من آل محمد’، فحالت جموع
الأعداء دون العباس×، فكانت للعباس× الشجاع القوي صولةٌ خلّدها التاريخ إلى الأبد،
طارت فيها رؤوس البغي وتساقطت فيها فرسان العدوان، ولكن لله مصائرُ الأمور، فوقع
العباس× في نهاية المطاف شهيدا بالغيلة والغدر.
وبعد شهادة العباس× الأخِ البار لأخيه الحسين×، بدأت
المصيبة الحقيقية؛ فالعباس كان رافع اللواء، والسند المنيع واليد الحديدية الضاربة،
التي أرعبت معسكر عمر بن سعد، ومضت الأقدار فها هو الحسين× يرى نفسه وحيدا، لا أهل
بيته^ ولا العباس ولا علي الأكبر ولا أصحابه! يا لها من محنة! إنها الغربة المقيتة،
الكل مضرّجون بالدماء صرعى في محراب الشهادة، بل على الرغم من تلك القواهر
والجراحات العميقة، هتف الحسين× بصوت الثورة والجهاد والقوة التي لا تلين، وأخذ
يردّد كلمات العزة والإباء:
سأمضي وما بالموت عارُ على الفتى
إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
فنهض× وحدَه يحمل سيف رسول الله’، وبين جنبيه قلبُ علي×،
وفي عينيه صورة الزهراء÷، وبيده راية الحق، وفي وجدانه أخته زينب× وما سيجري عليها
وعلى لسانه كلمة التقوى.
بكل هذا وقف× أمام جموع الأعداء المجرمين، الذين كان كل همّهم
قتلَ الحسين× إمام زمانهم والتمثيل بجسده الشريف، وفي الختام الأليم حدث ما حدث، فعانق
الحسين صعيد الطف، واسترسل جسده الطاهر ممتدا على بطاح كربلاء، وراح اللعين الشمر
بن ذي الجوشن يحمل سيف الجريمة، ويتجه نحو الحسين× ليفصل الرأس الشريف عن الجسد
المقدس، ثم يأتي اللعين بن سعد، لتطأ خيلُه جسد الحسين× بحوافرها، والأنكى من ذلك أن
تبقى الجثث الطواهر، ثلاثةَ أيام ملقاة على رمضاء كربلاء، قبل أن يدفنها الإمام
علي السجاد× وجماعة من بني أسد. ولم يكتفِ القتلة المجرمون بذلك، بل حملوا آل
الرسول من النساء والأطفال، سبايا إلى الكوفة ثم إلى الشام ويتقدمهم رأس الحسين×.
والى هنا تنتهي أحداث الطف في وقتها، ولكنها بقيت ذكرى في
القلوب والعقول الواعية للاعتبار بها، إنها قصة مقدسة لن تنتهي فصولها الهدفية؛
لقداسة أشخاصها ولمنهجهم القويم. >السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح
التي حلت بفنائك وأناخت برحلك، عليكم مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل
والنهار، ولا جعله الله آخر العهد من زيارتكم، السلام على الحسين وعلى علي بن
الحسين وعلى أصحاب الحسين صلوات الله عليهم أجمعين<. والحمد لله رب العالمين.
([1])
>عدها الشيخ في رجاله، من أصحاب رسول الله’. ونسب الميرزا في كتابيه إلى رجال
الشيخ عدها من أصحاب علي× أيضا. إن أمير المؤمنين× قد تزوج بها بعد وفاة أبي بكر،
وإنها كانت موالية لأمير المؤمنين وللصديقة الطاهرة÷، وذكر ابن شهرآشوب أن أسماء
بنت عميس، قالت: أوصت إلي فاطمة÷، أن لا يغسلها إذا ماتت إلا أنا وعلي÷، فأعنت
علياً على غسلها... وتقدم في ترجمة محمد بن أبي بكر في روايتين، أن نجابتَه أتت من
قبل أمه أسماء بنت عميس، رحمة الله عليها<. معجم رجال الحديث: 24: 195.
([15]) وللتثبت من ذلك يمكن
مراجعة كتاب: جواهر التاريخ. للشيخ علي الكوراني: ج2. ص207. فقد جمع فيه أسماء
الكتب والمؤلفين القُدامى الذين ذكروا هذا الحديث الشريف.
([17]) كانت
الظروف العامة متشابكة، فمعاوية يريد الخلافة لابنه يزيد، وعبد الله بن الزبير بن
العوام يتمنى خروج الحسين× من الحجاز ليخلو له بسط نفوذه، وأهل الكوفة مترددين بين
الدعوة لخليفة من آل بيت النبي’ وبين سطوة عبيد الله بن زياد بن أبيه، فكان خروج
الحسين× حسماً لهذه المواقف، وتجلية لحق آل البيت^ في الإمامة. فكانت النتائج أن
انكشف ظلم يزيد للمسلمين وهو نسغ من ظلم أبيه، وتكالبه على الملك، والطموح الدنيوي
لعبد الله بن الزبير وبُعده عن خط آل البيت^، وانكشف كذلك تخاذل الناس في الكوفة
ومكة والشام ومصر، عن نصرة آل البيت^ منذ تباطؤهم في جيش الإمام علي×، والحسن×.
([57]) ذخائر
العقبى: الطبري: 133. جامع أحاديث الشيعة: 21: 417. مسند أحمد بن حنبل: 4: 172.
سنن الترمذي: 5: 324، وقال عنه: >هذا حديث حسن<. المستدرك: للحاكم
النيسابوري: 3: 177، وقال في ذيله: >هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه<.
المصنف: لابن أبي شيبة: 7: 515. الأدب المفرد: للبخاري: 85. المعجم الكبير
للطبراني: 3: 33.
([60]) في
الهامش على هذه العبارة، في الكافي: للكليني: >>لما سبق<، أي لما سبق من
المعارف، و>لما استقبل<، أي لما استُقبل من الحكم والحقائق والمعارف. وليس معناه
الفاتح لمن يأتي بعدك؛ لأن كلمة (ما) الموصولة جاءت لغير ذوي العقول<. 4: 572.
وإن عبارة: >والمهيمن على ذلك كلّه<، أي أن الرسول’، قد تمكّن من هذه
المعارف والربّانيات، حتى في مَن بعده من المعصومين^.
([69]) يبدو
أن المؤامرة على الإسلام كانت من ثلاثة مستويات، أولها اليهود وما بثوه من سموم في
منظومة الحديث النبوي، وثانيها الخلفاء الجهال بأحكام الإسلام والذين وضعوا لبنات
الخلل والتصدع في البناء الإسلامي منذ الأيام الأولى، من خلال الكثير من
الإجتهادات الفردية الطائشة، ومنع تدوين الحديث، وتقريب أفراد القبيلة لتكوين حكم
جاهلي جديد بثوب إسلامي، وثالثهما دور بني أمية خاصة، الذين جعلوا من الظلم
والإسراف مشروعا سائغاً، وأنتجوا فقهاً خاصاً ونظرية معرفة متكاملة لهدم الإسلام.
0 التعليقات:
إرسال تعليق